مباشر

عاجل

راديو اينوما

المفاوضات: ممرٌّ إجباريّ لتجنّب الحرب... ورفضٌ يفتحُ أبوابَها

07-11-2025

مقالات مختارة

انطوان العويط

كاتب لبناني

كتب أنطوان العويط

حين حسمَ الرئيسُ جوزاف عون موقفَه، معلنًا أن لا سبيلَ أمام لبنان سوى التفاوض، لا مع صديقٍ أو حليف، بل مع عدوٍّ تتقاطع معه الضروراتُ وتتشابك المصالحُ على حافّة النار، كان يفتح البابَ أمام خيارٍ لطالما تهرّب منه الداخلُ اللبنانيّ. فجاء هذا الطرحُ كمنفذٍ وحيدٍ لتفادي مواجهةٍ باتت كلُّ عناصرها مكتملة، ومحاولةً لانتزاع فسحةِ بقاءٍ من بين أنياب الحرب.
كان الانطباعُ العامّ أنّ هذا القرار جاء نتيجةَ تنسيقٍ سياسيٍّ دقيق، وأنّ تفاهمًا تمّ بين الرئيس عون ورئيسِ مجلسِ النوّاب ورئيسِ الحكومة على اعتمادِ إطارِ "الميكانيزم" للتفاوض، مع إمكانيّة توسيعِه ليشملَ خبراءَ مدنيين ودبلوماسيين وقانونيين، وهذا صحيح. كما ساد الانطباعُ نفسه بأنّ هذا المسار جرى بالتوازي مع تنسيقٍ أجراه الرئيس برّي مع "حزب الله"، والأخير في مطلق الأحوال لن يطلق موقفًا مؤيّدًا علنيًّا، وأقلّه سيكون "محايدًا"  في قبوله  بمفاوضاتٍ "غير مباشرةٍ وغير سياسيّة"، على غرارِ تجربةِ ترسيمِ الحدودِ البحريّة السابقة.
غير أنّ تلك الانطباعات ما لبثت أن تهاوت، بل نُسفت من جذورها، مع صدور كتابٍ مفتوحٍ وجّهه "حزب الله" إلى الرؤساء الثلاثة، جاء صادمًا في شكله كما في مضمونه.
ففي الشكل أوّلًا، اختار الحزب أن يصدر بيانه مكتوبًا، جاعلًا كلّ عبارةٍ فيه محكمة الصياغة، دقيقة المعنى، خاليةً من أيّ التباسٍ أو زلّة تعبير. وهو، بلا ريب، النصّ الأكثر وضوحًا وحزمًا الذي يصدر عن الحزب منذ اتفاق السابع والعشرين من تشرين الثاني.
وفي الشكل أيضًا، يسجَّل أنّها المرّة الأولى التي يوجّه فيها الحزب كتابًا إلى الرؤساء الثلاثة من ناحية، وقد بدا لافتًا أنّه تعمّد إدراج الرئيس نبيه برّي في عدادهم من ناحية ثانية، بحيث جعله شريكًا في ما تضمّنه الكتاب من ملاحظاتٍ وانتقادات، ومُحمَّلًا، ضِمنيًّا، قسطًا من المسؤوليّة عن المآلات التي استوجبت صدوره، ولا سيّما في ما يتّصل بملفّ التفاوض.
وفي المضمون ثانيًا، ثبّت "حزب الله" موقفه الحاسم من جملة ملفاتٍ حسّاسةٍ وخلافيّة، مجدِّدًا تمسّكه بثلاث لاءاتٍ قاطعةٍ لا تحتمل التأويل: لا للتفاوضِ السياسيّ مع إسرائيل، ولا لتسليمِ السلاح شماليَّ نهرِ الليطاني، ولا للتخلّي عن خيارِ المقاومة في مواجهةِ الاحتلال.
جاء ذلك بلغةٍ حادّةٍ، إذ وصَف الحزب مواقفَ من توجّه إليهم بأنّها "استجابةٌ لطلبٍ أجنبيٍّ أو ابتزازٍ إسرائيليّ"، وحشَر الدولة اللبنانيّة، برؤسائها وأركانها، في زاوية الاتّهام، لمجرّد طعنه بقرارات الحكومة الصادرة في 5 و7 آب، تلك التي رأى فيها الحزب خطيئةً لا خطأً. كما أحرج الرئيس عون تحديدًا، بعدما كان قد تفرّد بتحمّل مسؤوليّة ملفّ حصر السلاح والسعي إلى حلّ هذه المعضلة عبر حوارٍ ثنائيٍّ مع الحزب، حوارٍ بدا اليوم وكأنّه بلغ نهايته المسدودة. كما ردّ الحزب على موقف  الرئيس الداعي إلى التفاوض، معتبرًا إيّاه "استدراجًا للبنان إلى اتفاقٍ سياسيٍّ يُنتزع فيه إقرارٌ لبنانيٌّ بمصالح العدوّ في لبنان والمنطقة، فضلًا عن الاعتراف بشرعيّة احتلاله لأرض الغير بالقوّة في فلسطين".
كان الترجيح، قبل صدور هذا الكتاب، أنّ تصريحات الحزب وإعلامِه، المليئة بالشكوك والاعتراضات، لم تكن سوى غبارٍ يُثار لإخفاءِ التحوّلِ الفعليّ في الموقف. فهو، على الرغم من لغته المتشدّدة، كان يدرك، بمنطق الضرورة، أنّ المفاوضات باتت قدرًا لا مفرّ منه، وأنّها تتيح له في الوقت نفسه فرصةً ثمينةً لالتقاط الأنفاس واستجماع القوى في لحظةٍ إقليميّةٍ خانقة، يواجه فيها ضغطًا مزدوجًا: سيفَ العمليّات والاستهدافاتِ المسلَّط فوق رأسه، وضغطَ الداخل المتعب من الحرب والدمار وتعطّل الإعمار. فبيئتُه الحاضنة بدأت تضيقُ ذرعًا بالأثمان، وقيادتُه بأمسّ الحاجة إلى هدنةٍ عسكريّةٍ حقيقيّة، ونَفَسٍ تفاوضيٍّ يُخفّف عنها وطأةَ المرحلة.
ومن هذه الزاوية تحديدًا، كان قرارُ الدولةِ بالانخراطِ في المفاوضات يخدمُ لبنان وشعبَه، بما فيهم الحزب، إذ يمنحُ الأخيرَ فرصةً لإعادةِ التموضعِ وتبريدِ الجبهات، من دون أن يبدو في موقعِ المتراجع أو المُضطرّ.
هنا يفرض نفسه السؤال الحاسم: ماذا تغيّر، وما هي البدائل؟ وماذا بعد بالنسبة إلى الحزب أوّلًا، وبالتوازي بالنسبة إلى الحكومة اللبنانيّة وطروحات رئيس الجمهوريّة؟
من دون جزمٍ أو حسم، يُرجَّح أنّ "حزب الله" يدرك أنّ المفاوضات ستكون حتميّة، إذ إنّ البديل الوحيد هو الحرب، كما يُدرك أنّ الرؤساء الثلاثة لن يعيدوا حساباتهم في ضوء كتابه.
في المقابل، كان الموقفُ الإسرائيليّ من المفاوضات، والمدعومَ أميركيًّا بالكامل، واضحًا لا لبسَ فيه، في حال رغب فيها وأرادها في هذه المرحلة: إنّه يسعى إلى نسخةٍ لبنانيّةٍ من معادلةِ غزّة. تفاوضٌ تحت النار، بمعنى أن يبقى الميدانُ أداةَ ضغطٍ وابتزازٍ تفاوضيّ، لا وسيلةً لحسمٍ شامل. وهذا ما شرعت به تل أبيب فعلًا، عبر تصعيدٍ عسكريٍّ واسعٍ ومدمّر، وإنْ مضبوطٍ في حدودِ استبعادِ الحربِ الكبرى، جاء مباشرةً بعد صدورِ كتابِ الحزب، في ردٍّ مباشرٍ عليه.
في هذا السياق، يجدُ لبنانُ نفسَه أمام سباقٍ مع الزمن؛ فنافذةُ العودةِ إلى "القطارِ الأميركيّ" تضيقُ سريعًا، وقد لا تتجاوزُ نهايةَ العامِ الجاري. وعليه أن يختار، وبوضوحٍ، بين أن يكونَ جزءًا من مسارِ التسويات، أو أن يُترَكَ في هوامشِها... وفريسةَ الحرب.
إنّها لحظةٌ دقيقةٌ تختلطُ فيها الاستراتيجيّة بالتكتيك، والواقعيّةُ بالوهم، والمصلحةُ الوطنيّةُ بتشابكِ المصالح الإقليميّة. فلبنانُ، إن فاوض، فليتفادى الكارثة، لا لصناعةِ المعجزة. ومع ذلك، فإنّه، في كلّ الأحوال، يفتحُ نافذةً صغيرةً على أفقٍ كان مغلقًا بالكامل. والواضحُ أنّ المفاوضات، إن حصلت، باتت ممرًّا إجباريًّا لتجنّبِ الحرب، ومن لا يدخلْها اليومَ بإرادةٍ، قد يُساقُ إليها غدًا بشروطِ الآخرين.

services
متجرك الإلكتروني في أقل من عشرة أيام!

انطلق من حيث أنت واجعل العالم حدود تجارتك الإلكترونية…

اتصل بنا الآن لنبني متجرك الإلكتروني بأفضل الشروط المثالية التي طورتها شركة أوسيتكوم؛ أمنًا، سعرًا، وسرعة.
اتصل بنا

This website is powered by NewsYa, a News and Media
Publishing Solution By OSITCOM

Copyrights © 2023 All Rights Reserved.