03-09-2024
مقالات مختارة
|
المدن
دنيز عطاالله حداد
دنيز عطاالله حداد
في مثل هذا الشهر منذ 104 سنوات أُعلن قيام دولة لبنان الكبير. 104 سنوات لم تكن كافية ليجيب أبناؤه عن سؤال تكويني جوهري: أي لبنان نريد؟ توارثت الأجيال قلق السؤال وإرباكه، وبقيت الإجابة وعداً خفياً، مبهماً، غير محقق إلى اليوم .
على الأرجح، لن يكون رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع آخر السائلين: أي لبنان نريد؟ فدعوته -بعد أولوية انتخاب رئيس- إلى "طاولة حوارٍ وطنيّةٍ فعليّةٍ في قصر بعبدا حيث نطرح كلّ شؤوننا وشجوننا الوطنيّة، يتركّز النّقاش فيها على عنوانٍ أوحد: أيّ لبنان نريد؟"، تعكس هواجس مضمرّة كثيرة في البيئة المسيحية.
عن حدود لبنان ووحدته
ليس سراً أنه في أزمنة الخوف والتوتر والحروب منذ منتصف السبعينات إلى اليوم، يتراجع المسيحيون عن "فكرة" لبنان الكبير. تتقدم في أوساطهم طروحات الفيدرالية والكونفدرالية والتقسيم. يقدمون الشواهد والمبررات عن فشل التجربة، من نزاعات و"ثورات" وحروب لم تسمح للبلد الصغير أن يكرّس إجماعاً على مفاهيم "بديهية" في تعريف الدولة والمواطنة، فضلاً عن هوية وطنية جامعة. يستنجدون بالتاريخ، يشهّدونه على ما ارتُكب في حق هذا البلد الصغير من تجاوزات، هي في كتابهم، ترقى إلى مستوى الطعن بأسس التجربة اللبنانية، وتغلق أمام تطورها الأبواب.
في كلمة جعجع، في احتفال ذكرى شهداء القوات اللبنانية، توقف كثيرون عند تكراره لمرتين التمسك بـ"حدود لبنان ووحدته". المغالون بالتمسك بالوحدة المفترضة، رأوا فيها تكريساً وحسماً لموقف القوات اللبنانية يقطع الطريق على أي نظام سياسي آخر.
لكن وضع الكلام في سياقه، وتحديد المفاهيم تفتح باب الاجتهاد في تفسير كلام جعجع. فهو قال حرفياً "أوّل شيءٍ يجب أن نقوم به في اليوم التالي هو إعادة النظر في كلّ شيءٍ في لبنان ما عدا حدوده ووحدته. اليوم التالي لا يمكننا الوصول إليه من خلال المجاملات الساذجة والمجاملة الفارغة، وقول الأشياء من دون الإشارة إلى شيءٍ محددٍ". قبل أن يعود ويكرر "يجب إعادة النظر في كلّ شيءٍ في لبنان ما عدا حدوده ووحدته".
إعادة النظر في كل شيء، تعني حكماً، إعادة النظر في النظام نفسه. وهو ما لم يخفه جعجع بقوله "إذا كان البعض يريد تعديل الدستور فلا مانع لدينا". أما وحدة لبنان وحدوده فهي، في المفهوم الفيدرالي، مصانة ولا تتغيّر وفق كل الطروحات الفيدرالية المتداولة اليوم. ويذهب غلاة الفيدراليين إلى ترجمة معنى الفيدرالية بـ"الاتحادية" تأكيداً على مركزية الدولة، في وحدتها وحدودها، وتعدد الانظمة السياسية في الاتحادات.
بين "هانوي" و"هونغ كونغ"
ما قاله جعجع في كلمته تظهير سياسي مدروس لما يعتمل في البيئة المسيحية من اعتراض يتنامى على الشراكة "غير المنصفة" لا في القرار السياسي ولا العسكري ولا حتى الاقتصادي. يضاف إليها كلام يتكرر ويتجدد حول العدد والديموغرافيا والدور.
أي لبنان نريد؟ سؤال في السياسة والاقتصاد والأمن والاجتماع والثقافة. وهو عند المسيحيين سؤال وجودي، ترتبط الإجابة عليه بمستقبلهم في البلد ودورهم.
صحيح ان هذا السؤال يؤرق سائر الطوائف، كل من زاويتها ورؤيتها للبنان ودورها وحضورها فيه، لكن غياب الإجابة الواضحة عليه، تكرّس عند المسيحيين تفريغاً للبلد من شبابه، أي من مستقبله.
وإذا كان وليد جنبلاط قادراً على العيش مرّة في "هانوي" ومرة في "هونغ كونغ"، وفق ما يقتضيه الظرف السياسي ومصلحة الجماعة من منظوره، فإن الرأي العام المسيحي، لاعتبارات يطول تفسيرها، يطمح، في شبه إجماع، للتشبه بـ"هونغ كونغ".
أي لبنان نريد؟ تغيرت الظروف ومقاربات الطوائف للبنان وفق تجاربها وتطورها على امتداد 104 سنوات، ومع ذلك بقي السؤال عصيّاً على جواب يلتقي عليه اللبنانيون.
وعلى الأرجح، سيبقى الجواب معلقاً على مشجب الأحداث وموازين القوى ومصالح الدول
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار