06-08-2024
مقالات مختارة
|
المدن
ميشال الحلو
الأمين العام لـ"الكتلة الوطنيّة"
تسبّبت عمليّتا الاغتيال الكبيرتان اللتان نفّذتهما إسرائيل، واللتان لم يفصلْ بينهما سوى اثنيْ عشر ساعة، في خلق حالة من الصّدمة بين اللّبنانيّين، وفي مفاجأة العالم بأسره. وعلى الرّغم من أنّ الردّ كان متوقّعًا بعد المأساة التي ألمّت بمجدل شمس حيث تسبّب صاروخ، نَسَبَته كلّ من إسرائيل والولايات المتّحدة إلى حزب الله، بمقتل 12 شخصًا غالبيّتهم من الأطفال، إلا أنّ أسلوب الرّد الاستفزازيّ، الذي يعكس التوجّه التصعيديّ، لم يكن في الحسبان.
بالإضافة إلى الضّحايا المدنيّين والجرحى الثّمانين الّذين خلّفهم الهجوم، فإنّ التأثير النفسي كان هائلًا، إذ أعادت هذه العمليّة فتح جراح حرب 2006 بين سكّان حارة حريك بشكلٍ مفاجئ. فباختيارها ضرب بيروت ثمّ طهران، يبدو أنّ إسرائيل أرادت توجيه رسالة واضحة مفادها أنّه ما من خطوط حمر بعد اليوم. وباستهدافها فؤاد شكر، وهو شخصيّة حزبيّة في جهاز حزب الله العسكري، بعيدة من الأضواء، إنّما بارزة في الوقت عينه، فهي تتقصّد إظهار معرفتها الدّقيقة بأماكن وجود خصومها وقدرتها على استهدافهم حيثما أرادت، ومتى شاءت. ومن خلال اغتيال اسماعيل هنيّة في طهران، رئيس الجناح السّياسيّ في حركة حماس والمسؤول عن المفاوضات، يعلن بنيامين نتنياهو عن رفضه وقف إطلاق النار من جهة، وعن سعيه إلى انتصار يهديه إلى الرّأي العام في بلاده من جهّة أخرى، في ظلّ غياب أي مكاسب سياسيّة ملموسة في غزّة رغم المجازر التي ارتكبها حتّى الآن. وهو يحاول، كما بات معلومًا للجميع، أنْ يجرّ إيران إلى مواجهة مباشرة معه، ومع الولايات المتحدة من خلفه.
أمّا في صفوف حزب الله وفي إيران، فتتعالى الأصوات الدّاعية إلى الانتقام، في جوّ من الصّدمة والغضب. وقد عبّر عن ذلك مرشد الجمهوريّة الإيرانيّة علي خامنئي عبر إعلانه أنّ الانتقام آتٍ لا محال. وسط كلّ ذلك، يبقى السّؤال الذي يشغل الجميع هو معرفة ما إذا كنّا متّجهين إلى حربٍ شاملة أم لا.
مرحلة حاسمة
وصلنا اليوم إلى مرحلة حاسمة، باتت فيها إمكانيّة الانفجار الإقليمي أمرًا واقعًا. أمّا دورنا نحن كلبنانيّين فهو في محاولة تفادي ذلك بكل الوسائل المتاحة. إذ ما من مبرّر لجرّ لبنان الرازح أصلًا تحت وطأة الانهيار الاقتصاديّ وتحت براثن سلطة سياسيّة عطّلت كلّ مؤسّساته الدستوريّة، إلى حرب دفع ثمنها الباهظ مسبقًا مذ فتح حزب الله "جبهة المساندة" في 8 تشرين الأوّل/أكتوبر. فقد مُنيَت البلاد بأكثر من 500 قتيل، من بينهم 100 مدنيّ تقريبًا، وحوالى 100 ألف نازح، فضلًا عن 30 قرية مدمّرة بشكل جزئيّ، وآلاف الهكتارات من الأراضي الزراعيّة المحروقة بالفوسفور. وعلى الرّغم من كل ذلك، ما زالت تتعالى الأصوات المُطالبة بالثّأر، والمهدِّدة بإزالة إسرائيل من الوجود.
عمليًا، إنّ هؤلاء من جهة، والّذين يأملون في تدمير حزب الله من قِبل إسرائيل من جهة ثانية، هم واهمون. فالحرب الشاملة، إذا اندلعت، لن تدمّر إلا لبنان على نحوٍ سيعجز عن النّهوض مجدّدًا.
إنّ دعم القضيّة الفلسطينيّة واجب أخلاقيّ من جهة، إذ إنّ المجزرة التي أُضيفت إلى 76 عامًا من الظّلم والحرمان القسريّ، وأودت بحياة 40,000 شخصًا من سكّان غزّة، وهي لأمرٌ فظيع. وهو واجبٌ سياسيّ، من جهةٍ أخرى، على كلّ الطامحين للعيش بسلامٍ يومًا ما في هذا الشرق. إذ أصبح واضحًا أنّ من شروطه إقامة دولة فلسطينيّة بكلّ معنى الكلمة. ولكن، هل لنا أن نتوقف قليلًا لنسأل ماذا قدّمت صواريخ الميليشيات النّاشطة على أراضينا لهذه القضيّة بالذّات؟ وكيف ساهمت في إبطاء المذبحة المستمرّة في غزّة؟ وحتّى لو تأثّر إسرائيليّو الشّمال بتلك الصّواريخ، فهذا لا يُقارن بالمعاناة والدمارالّذي يعيشه جنوبيّو لبنان. وهل ما زال من الطبيعي بعد كل ما مرّ به هذا البلد، أن يكون هناك لبنانيّون مستعدّون للتّضحية بلبنان فقط من أجل إلحاق بعض الضرر بإسرائيل؟
من ناحية أخرى، كيف يمكن للبنانيّين والفلسطينيّين أن يُصدّقوا أنّ الحزب المتّهم باغتيال المقاومين في الجنوب كما بالاغتيالات السياسيّة، والذي قمع حرّية الشعب اللبناني وانتفاضته في تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، وعطّل العدالة في جريمة تفجير مرفأ بيروت، وشلّ كل مؤسّسات الدولة اللبنانيّة، أنّه يقاوم في سبيل فلسطين وحقوق شعبها بالحرّية والعدالة وبدولتهم المستقلّة؟
في الحقيقة، لقد تبيّن أنّ حزب الله بالنتيجة لا يهدف من خلال هذه الحرب إلّا إلى تعزيز مكانة راعيه الإقليميّ في سبيل زيادة وزنه وتأثيره على السّاحة الجيوسياسيّة الكبرى.
والحال أنّ جيلًا كاملًا من الشباب الفلسطيني والعربي مُعرّض اليوم لتبنّي خيارات أكثر تطرّفًا وخطورة؛ كيف لا، ونحن واقعون تحت خطر الحرب والإبادة الإسرائيليّة وغياب الأفق السياسي من جهة، وبين لامبالاة النظام الدولي، لا بل دعمه وتبريره للهمجيّة الإسرائيليّة والأخطر، للسرديّة الإسرائيلية. وهذا ما بدأ يتسبّب في شرخ بين هذه الحكومات، وبين جزء لا يستهان به من الرأي العام العالمي المصدوم من فظاعة المشاهد التي تصله من غزّة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
منذ قرابة الثّلاثين عامًا، استحوذ المتطرّفون تدريجيًّا على القضيّة الفلسطينيّة، والنّتيجة لم تكن سوى المزيد من المآسي. ندرك جميعًا أنّ السلام، حتى لو أراده الفلسطينيّون، ليس سهل المنال. لكنّنا بتنا اليوم نعلم أيضًا أنّ المزايدات الكلاميّة والمغامرات العسكريّة غير المحسوبة لا تؤدي إلا إلى القتل والتدمير. فلا فشل مفاوضات الأمس، ولا غياب الشّركاء اليوم، يبرّر خيار الحرب الأبديّة.
قد تبدو تعليقاتي ساذجة في زمنٍ تسود فيه لغة القوّة والوحشيّة، إلّا أنّها ضروريّة، لأنّ المصير الوجوديّ لمنطقةٍ مُستنزَفة بالأصل هو على المحكّ: فالمسلمون والمسيحيّون واليهود موجودون في هذا الشّرق منذ فجر التّاريخ، ويتعيّن علينا إيجاد السبيل المناسب للتعايش السلمي.
المقاومة الوحيدة منوطة بالّدولة
ولكن، كيف السّبيل إلى دعم الفلسطينيّين في سعيهم إلى حقهم في تقرير مصيرهم؟
لنتمكّن من ذلك، يتعيّن علينا أوّلًا مساعدة أنفسنا، ويتجلّى ذلك في بناء دولة بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، دولة تساعد في أن يكون صوت لبنان مسموعًا على السّاحة الدوليّة تمامًا كما في الماضي. هذا بالإضافة إلى المشاركة في الضّغط الدوليّ الذي، وإن كان غير كافٍ حتّى الآن، إلّا أنّه نجح في جعل إسرائيل تخسر معركة الرّأي العام، وذكّر بضرورة العودة إلى سيادة القانون بفضل مبادرة جنوب افريقيا الشُّجاعة. المطلوب كذلك العمل على المستوى الشّخصي، وليس الدوليّ فحسب: ماذا عن الذاكرة اللّبنانيّة-الفلسطينيّة المتعلّقة بالحرب الأهليّة؟ وأين نحن من التقدّم المُحرَز على صعيد حقوق اللّاجئين في لبنان؟ كيف يسَع للجاليتين اللبنانيّة والفلسطينيّة في الشّتات التّعاون بشكل فعّال لإحداث تأثير ملموس؟ علينا الإجابة على هذه الأسئلة الطّويلة الأمد والحيويّة في آن.
في الوقت الرّاهن، وبغية وضع حدّ للدّوامة المأسويّة الّتي نعيش فيها، لا يمكننا طبعًا التّعويل على وزير الخارجيّة في حكومة تصريف الأعمال عبد الله بو حبيب الّذي "يتمنّى أن يكون ردّ حزب الله متناسقًا". نحن بحاجة ماسّة إلى رئيس جمهوريّة وحكومة يتمتّعان بصلاحيّات كاملة، بغية الدفاع عن سيادة الدّولة اللبنانيّة ومصالحها أوّلًا، وبذل جهود دبلوماسيّة حقيقيّة بهدف تطبيق القرارات الدوليّة، وعلى رأسها القرار 1701. ولا يتعلق الأمر هنا بوقف إطلاق نار بين طرفيْ النّزاع فحسب، بل يشمل أيضًا إعادة بسط سلطة الدّولة في الجنوب وبشكلٍ تام. فلا بدّ من بذل جهودٍ كبيرةٍ لإعادة إحياء شعور الأمان لدى أهالي الجنوب.
من المهمّ جدًّا تحصين الدولة اللبنانيّة لأنّ التجربة العمليّة أثبتت أنّها وحدها قادرة على ردع إسرائيل، كما حصل بعد اتّفاق الهدنة عام 1949 وحتّى نهاية الستينات، يوم ساد استقرارٌ نسبيّ على الحدود عندما أدارت الدفّة الدولة اللبنانيّة وأجهزتها الرسميّة وعلى رأسها الجيش اللبناني حصرًا، وغياب الميليشيات والتدخّلات الخارجيّة.
إذًا، من يردع إسرائيل، ومن يقاوم الاحتلال هي الدولة وحدها. وأيّ مشروع آخر، خصوصًا إذا قادته عقيدة دينيّة أو مصالح أجنبيّة، لن يؤدّي سوى إلى المزيد من الدّمار.
وإلى حين نجاحنا في استعادة الدولة، وحتّى ولو انفرد الإسرائيليّون والولايات المتّحدة وإيران بالقرار، فإنّ ذلك لا ينفي واجبنا كلبنانيّين في المحافظة على ما تبقّى من سيادة وكرامة لدينا. فلنرفضْ إذًا أن يتمّ تحديد مصير لبنان في تلّ أبيب أو في طهران!لنرفضْ تحديد مصير لبنان في تل أبيب أو طهران!
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار