كتب عبد الرؤوف سنو في اللواء
طرح عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول 2023 ثلاثة أسئلة محقة:
• هل يستحق إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين قيمة التضحيات التي قدمتها غزة حتى الان، بشرا وحجرا وأمومة وطفولة ورجولة وقضية واقتصادا؟
هل قدمت حماس بعمليتها الفرصة الذهبية لحكومة نتنياهو لتباشر إنهاء القضية الفلسطينية، في غزة أولا، ثم في الضفة الغربية وتهجير الفلسطينيين؟
هل كانت حماس تتوقع رضوخ إسرائيل لشروطها بتبادل أسراها بالفلسطينيين عندها، فتحقق بذلك نصرا يؤكد صمودها ومقاومتها؟
بالعودة إلى الوراء، فقد تأسست حماس في العام 1986، وتعاظمت قوتها برفضها اتفاقيات أوسلو التي وقعها ياسر عرفات مع إسرائيل في العام 1993، والمصافحة الشهيرة بينه واسحق رابين برعاية الرئيس الأميركي كلينتون. وذاع صيتها في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، عقب اقتحام شارون المسجد الأقصى في أيلول 2000.
وقد جعل موقف حماس الرافض بالمطلق لشرعية وجود إسرائيل، وشبكة مؤسساتها الخيرية العاملة، تحظى بقبول أهالي غزة، وبالتالي أن تفوز في الانتخابات التشريعية في العام 2006، بعد سنة من انسحاب إسرائيل من القطاع، حاملة معها شعارين: حتمية قتال إسرائيل حتى إزالتها من الوجود، والقطيعة النهائية مع «السلطة الفلسطينية ومحاربة الفساد المعشعش فيها. فكان الشعار الأول استراتيجيا ووطنيا؛ فالسلطة الفلسطينية ظهرت إلى الوجود بتسويات أوسلو بقبول واعتراف عرفات بدولة إسرائيل، بينما رفضت حماس تسوية سليمة لا تأتي بدولة فلسطينية على كامل إراضي فلسطين. من هنا، سار الجانبان الفلسطينيان في طريقين متعاكسين.
وفي العام 2007، سيطرت حماس على القطاع بعد قيامها بتصفية «فتح» الموالية لمحمود عباس الذي انكفأ في الضفة الغربية ليكون ما يشبه رئيس بلدية لا يسيطر على أموال «سلطته»، ولا حتى على أراضيها المخترقة بالمستوطنات اليهودية. في المقابل، خضعت غزة لزعيم حماس إسماعيل هنيّة، وانفتحت على إيران ووجدت فيها سندا سياسيا وعسكريا وتدريبا وتمويلا. وقد تعززت قدراتها التنظيمية والعسكرية والتأييد الشعبي لها، وانفتحت عن دول عربية وإسلامية ومنظمات جهادية.
وبين العام 2006 حتى 7 تشرين الأول 2023، خاضت حماس وشعب غزة مواجهات عديدة ضد الاحتلال الإسرائيلي قبل أن يتحصن وراء الجدار العازل الذي شيده أواخر العام 2021، من دون أن يتمكن من حماية مناطق احتلاله من صواريخ حماس، أو من هبوط مظلييها خلف الجدار قبل شهرين من الان. في المقابل، انحصر دور الدول العربية طوال الصراع بين حماس وإسرائيل، وخصوصا مصر وقطر، في دبلوماسية التوفيق بين الجانبين وترتيب الهدن للحروب القصيرة بينهما، أو في تقديم دول الخليج العربية مساعدات للقطاع تحت شعار: «إسرائيل تدمّر وعرب الخليج يعمّرون».
وبالعودة إلى السؤال إيجابيات عملية «طوفان الأقصى»، أو سلبياتها على عزة، فيمكن تلخيص الإيجابيات في النقاط الآتية:
- قضت على الاعتقاد لدى إسرائيل بإمكان تصفية القضية الفلسطينية، وبأنها لا تزال حيّة وتتوالد من
جيل إلى جيل، بعدما تحول كل فلسطيني وفلسطينية إلى مقاوم.
- حطمت نظرية الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، ونظرية الأمن والجدار العازل، كما «خط بارليف» في العام 1973 الذي سقط في اليوم الأول من الحرب.
- أبانت العملية تلاحم فلسطينيي الضفة الغربية مع إخوتهم في غزة. فمن انتفض، ومن استشهد أو اعتقل، لم يفعل ذلك حبًا بحماس، بل لأن القضية الفلسطينية واحدة في المنطقتين لا تتجزأ.
- أثبت شعب غزة صموده في وجه أدوات القتل الجماعي الأميركية الموضوعة في أيدي الإسرائيليين، والبعث برسالة إلى العالم «المتحضر»: «إن الاستشهاد في سبيل القضية هو أهون من الذل والقهر».
- كشفت العملية ضعف العرب والمسلمين والمتاجرين بالقضية العربية المركزيةـ، وعجز جامعة الدول العربية أمام مشاهد القتل والتدمير.
- كشفت العملية عن التحالف الأميركي-الإسرائيلي السافر ضد فلسطين، وتواطؤ الأوروبيين معه كونهم أرباب مصالح منذ عصر الاستعمار، وعرّت المجتمع الدولي الذي ينادي بحقوق الطفل والمرأة والإنسان، وبحق الشعوب في تقرير مصيرها والعيش بكرامة، وأن منظمة الأمم المتحدة ما هي سوى منبر خاضع للأميركيين.
أما عن رأينا في سلبيات العملية، فهي:
- سوء تقدير حماس لرد إسرائيل بعملية شاملة لتدمير غزة وإفراغها من سكانها وتهجير شعبها، وكذلك الحال بالنسبة إلى الضفة الغربية. وربما اعتقدت حماس أن حكومة نتنياهو ستسقط وتعم الفوضى في البلاد، أو أن ترضخ لتبادل أسراها بالأسرى الفلسطينيين.
- امتداد العمليات الإسرائيلية إلى الضفة الغربية، قتلا وقصفا واجتياحا وأسرا للمقاومين. فامتلأت السجون الإسرائيلية بأكثر من ثلاثة آلف معتقل. فما الذي يمنع إسرائيل من أن تضرب عصفورين بعملية واحدة؟
- اعتقاد حماس أن عمليتها ستنسف أو تؤخر عملية استكمال السلام بين العرب وإسرائيل، وربما هذا صحيح إلى حد ما، لكن من يعمل على التطبيع مع العدو الصهيوني لن يدعم غزة ويتورط في حربها. إن الخوف من إيران وأهدافها في المنطقة وبرنامجها النووي مهد للتقارب بين العرب المطبعين وبين إسرائيل لمواجهة «العدو المشترك». ولا بد أن إيران تدرك مساوئ سياستها في المنطقة.
- إن إيران التي ترفع خطابا أيديولوجيا سياسيا دعائيا بإزالة إسرائيل من الوجود اكتفت بتحريك وكلائها بالرد على الأميركي وعلى الإسرائيلي ضمن ضوابط؛ فتحدث الأمين العام لحزب الله بالحديث عن «المساندة الايجابية»، لا الدخول في حرب شاملة. فهل راهنت حماس على إيران وحزب الله؟ وأين تدرب المظليون الحماسيون على حرب المظلات، مع استبعاد أن يكون ذلك في غزة؟
- إن المرشحين للرئاسة الأميركية غالبا ما يؤيدون إسرائيل في انتخاباتهم لكسب مودة اللوبي اليهودي إلى جانبهم. فاعترف ترامب بعيد فوزه بالقدس عاصمة لإسرائيل وبالجولان جزءا منها على التوالي في العامين 2017 و2019، فيما أيد بايدن المثليين من على منبر البيت الأبيض، لكسب أصواتهم في الانتخابات الرئاسية المقبلة. فلا شيء يمنع هذا «الرجل» من القضاء على حماس وشعب عزة من أجل جنون الرئاسة.
- اعتقاد حماس أن تستيقظ ضمائر العرب والمجتمع الدولي أمام هول «الهولوكوست» بحق الفلسطينيين، فتتوقف إسرائيل عند حظ أحمر. لكن سقوط 16 ألف شهيد وحوالى 50 ألف جريح، وتدمير مدينة بكاملها على رؤوس سكانها، لم يهز جفن مسؤول واحد في الغرب، باستثناء إسبانيا وبلجيكا، حتى أن أوروبا قيدت منصات التواصل الاجتماعي والتظاهرات المؤيدة للفلسطينيين.
- ألم تنتبه حماس إلى أن الفرع الشمالي للممر الهندي-الخليجي-الأوروبي (في إطار صراع أميركا الاقتصادي مع الصين) يمر في حيفا، ومنه إلى اليونان فأوروبا؟ وهذا سيجعل غزة حماس على رمية حجر من منطقة اقتصادية استراتيجية لإسرائيل وللعرب والأوروبيين المشاركين في المشروع.
أليس من الأفضل لإسرائيل إذا القضاء على حماس وترحيل شعب غزة بتفريغ شمالها وجنوبها، لتقوم بإدارة المنطقة بنفسها؟
- هل مشروع «إسرائيل الكبرى» على طريق التنفيذ، بإعلان إسرائيل عن بدء عملياتها في جنوب قطاع غزة، وتكثيف هجماتها في الضفة الغربية، وربما تهويد باقي فلسطين؟ وما هي تبعات المشروع على الفلسطينيين ودول الجوار؟
بالنسبة إلى الأسئلة الثلاثة المطروحة مطلع المقال، وأولها: هل يستحق إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في سجون إسرائيل كل تضحيات غزة وأهلها؟
إن كل الشعوب التي ناضلت الاستعمار والمحتل، لم تضع يوما معادلة الخسائر البشرية والمادية في كفة ميزان والقضية الوطنية في كفة أخرى، وإلا ما كانت هناك حركات تحرر وطنية. وفي التاريخ العربي الحديث تقدم لنا حرب التحرير الجزائرية مثالا يستحق التقدير. فقد أُطلق عليها «ثورة المليون شهيد»، وهذا ينطبق على الفيتناميين وشعوب أخرى. فتحرير الوطن من الاحتلال، هو أهم قضية واجهها الإنسان في القديم والحديث، وهي تتقدم على الأرواح والخسائر والماديات، وإلا ما خرج استعمار من بلاد احتلها. وبالنسبة إلى الشعب الفلسطيني، فهو يقاوم ويضحي منذ العام 1948، ويتعرض لنكسات وينهض من جديد، تدمر إسرائيل ويعود ليبني من جديد، والأهم من ذلك، يستشهد شبانه وشاباته، وينبت جيل جديد رضع المقاومة من لبن أمه. لذا، تحولت مسألة الأسرى الفلسطينيين إلى قضية وطنية، طالما أن «فلسطين» كلها تعيش في سجن كبير.
وبالنسبة إلى السؤال الثاني المطروح، فلا يمكن وضع شعب في موضوع وطني مصيري أمام تقييم يعتمد على «الصح أو على الخطأ»، والمقصود بذلك شعب فلسطين الذي يأس تاريخيا من العجز العربي، ومن الدبلوماسيات الدولية المنحازة لإسرائيل، أو من الأمم المتحدة، حيث لم تحقق أمنيته الوطنية بدولة مستقلة منذ ثلاثة أرباع القرن. وسواء في الوطن العربي، أو في فلسطين القطاع والضفة، أم في بلاد المهجر، ليس من السهل أن يعيش الإنسان الفلسطيني على أرضه غريبا أو مضطهدا وذليلا، ومن دون حقوقه المشروعة؛ فيشعر أنه يعيش في سجن كبير. منذ أن تعاطت أوروبا وأميركا المسؤولتان عن المشكلة الفلسطينية مع الشعب الفلسطيني على أساس لاجئين، وليس صاحب قضية، وجرى تخصيص «الأونروا» لـ «رعايتهم» في مخيمات الدول (السجون) العربية، ازداد القهر والتنكيل. ولهذا السبب، عندما حمل الفلسطيني السلاح منذ العام 1965، وتعزز موقعه النضالي بعد هزيمة العرب في العام 1967، كان لا بد من أن يحصل الصدام بين الفدائيين وبين الأنظمة أو مع الشعوب العربية، لأن صاحب القضية لا يميز أحيانا بين الصح والخطأ؛ فتتقدم قضيته على كل مصلحة أخرى.
كانت كل الحلول الدولية المقترحة لحل المشكلة الفلسطينية سلميا، إما مبتورة ولمصلحة إسرائيل، أو لا تحقق الأماني الوطنية للشعب الفلسطيني كصحاب الأرض والقضية الحقيقي، أو أن ترفض من قبل تل أبيب وتجهض قبل ولادتها. صحيح أن التيار الإسلامي الأصولي الفلسطيني المتمثل بحماس رفض بعد أوسلو أن يتعايش في دولة إلى جانب دولة إسرائيل التي تغتصب أرضه التاريخية، إلا أن الأخيرة ويمينها المتطرف، رفضا وجود دولة فلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلية، ولا تزال غالبية شعب يعيش حتى اليوم في عقلية فلسطين «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». ولهذا السبب، أفرغ الإسرائيليون أوسلو ومشروع الدولة الفلسطينية من محتواهما، وعملوا مباشرة بعد ذلك، بغض نظر أميركي أو تأييد خفي، على رفع منسوب الاستيطان في الضفة الغربية للقضاء على السلطة الفلسطينية، إلى درجة طرد الفلسطينيين من أراضيهم ومنازلهم، وتدمير ما تبقى لهم من أراضٍ وحقول مزروعة، حتى نسف بيوت شهداء المقاومة... عدا ذلك، الاعتداء على مقدساتهم في المسجد الأقصى، والقتل اليومي للأطفال بدوس جنود الاحتلال أعناقهم بجزماتهم في الشوارع أمام الكاميرات، و»اصطياد» الشبان الفلسطينيين والصحافيين بالرصاص الحي، أو ضرب الحوامل حتى الإجهاض، ولا ننسى هدم البيوت، وتسليط المستوطنين ضد القرى الفلسطينية، ومحاصرة غزة برا وبحرا وجوا، وقطع الخدمات عنها، وتقطيع أوصال الشعب الفلسطيني بين ضفة وقطاع ومع فلسطينيي الـ 48، وأخيرا وليس آخرا، التعامل مع محمود عباس كرئيس بلدية، أو ربما أقل من ذلك. وكل هذا جعل حماس تتعاظم قوة وتسليحا وتأييدا، وتواجه السلاح بالسلاح.
بعد هذا، هل يمكننا أن نحكم بأنفسنا إذا كانت عملية 7 تشرين الأول صحًا أو خطاً؟ إن ما يحكم ويحاسب هو شعب غزة، والفلسطينيون. وبالرغم من كل كوارث الحرب الإسرائيلية على غزة، من قتل همجي لا يرحم، وتدمير المنازل والمؤسسات والبنى التحتية والمستشفيات ومنع الإمدادات الخدماتية عنها، من أدوية ووقود، لا يزال شعبها متمسكا بأرضه وقضيته، ما يعني أنه يفضل الاستشهاد على العيش بذل وقهر.
أما السؤال الأخير، حول قبول إسرائيل بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من سجونها، فقد قامت تل أبيب بإطلاق مئات الأسرى في العام 2011، من أجل إطلاق سراج الجندي الأسير شاليط. وإن عرقلة إسرائيل إتمام الصفقة الأخيرة مع حماس لإطلاق باقي الأسرى من الجانبين، يعود إلى أن استعادتها كل أسراها لدى حماس، سيعني فقدانها الذريعة لاستمرار الحرب.
كلمة أخيرة إلى الأميركيين والإسرائيليين...
كان الأميركيون في زمن «الحرب الباردة» يسألون علنا: «لماذا يكرهوننا؟»، والمقصود بذلك شعوب العالم الثالث. لقد دعمت أميركا إنشاء دولة إسرائيل منذ الحرب العالمية الأولى، مرورا بمؤتمر بالتيمور في العام 1942، ثم خلال ادعائها إيجاد حل لأزمة الشرق الأوسط وللقضية الفلسطينية منذ العام 1973، ولم تقدم للعرب ولشعب فلسطين سوى الكراهية والحقد. واليوم ترسل واشنطن أسطولها إلى المتوسط لحماية إسرائيل، وتزودها بمئة قنبلة خارقة الذكاء تزن الواحدة منها 2000 رطلا (لا أدرى كم تساوي من القنابل الذرية)، لتمكينها من القتل الجماعي على مدار الساعة. فهل من عانى الهولوكوست يمارس الهولوكست على غيره؟ وهل لا يزال الأميركيون المتورطون في حرب إبادة شعب غزة يطرحون على أنفسهم السؤال القديم نفسه: «لماذا لا يزالون يكرهوننا؟».