29-11-2023
محليات
|
النهار
كان أمراً مثقلاً بالدلالات والأبعاد أن تبادر السفارتان الاميركية والبريطانية في بيروت بعد أقل من ساعتين على إعلان التوصل الى اتفاق الهدنة الانسانية المحدودة في غزة، الى اطلاق دعوات صريحة توصي بإعادة الاعتبار سريعا الى القرار الأممي 1701 وتحضّ القوة الدولية العاملة في الجنوب (اليونيفيل) على النهوض في عجالة بالمهمات والادوار الامنية المنوطة بها، والتي اعتادت تنفيذها طوال الـ 17 عاما التي انقضت على صدور القرار ووصولها الى بقعة عملياتها المحددة بجنوب الليطاني.
فمن المؤكد ان هاتين الدولتين العُظميين تنطلقان سلفاً من معادلة ان الوضع الامني الذي انفجر على طول الحدود الجنوبية بعد أقل من 24 ساعة على انطلاق حركة “حماس” بعمليتها النوعية المسمّاة “طوفان الاقصى” ستكون معالجته وتدارك مخاطره وتداعياته اكثر تعقيدا واكثر استعصاء من أي أمر آخر، كون المعادلة الامنية – السياسية الواعدة والمشحونة بعوامل التفجير التي ولّدتها تطورات الوضع على الحدود صارت أمراً واقعاً مستجداً هو في الظاهر وثيق الارتباط بمآلات الوضع في غزة ومستجداته الميدانية، لكنه في الجوهر سينتج تلقائيا معادلة مركّبة ربما صارت اكثر تعقيدا من معادلة غزة نفسها بعد 7 تشرين الاول الماضي، وستحتاج تاليا الى رعاية خاصة وجهود استثنائية بغية الحيلولة دون تدحرجها نحو الاسوأ.
وبناء على هذه المعادلة، تبدّت في الساعات القليلة الماضية والتي تلت سريان اتفاق الهدنة الانسانية في غزة مشهدية بالغة التعقيد على جانبي الحدود اللبنانية مع الاراضي الفلسطينية المحتلة سيصعب بالتأكيد فكفكة شيفرتها وعقدها.
وهكذا فان “حزب الله” أحد أبرز اللاعبين الثلاثة على المسرح الحدودي الملتهب، يعتبر نفسه انه سجَّل نقاطا اساسية على تل ابيب والادارة الاميركية معا عندما ضرب بعرض الحائط كل التهديدات التي انهالت عليه عبر قنوات شتى للحيلولة دون إقدامه على أي فعل يفضي الى ربط مصير الوضع على الحدود بالوضع في غزة، وهو ما من شأنه ان يكون عَوداً على بدء وإحياءً لنمط الصراع العربي – الاسرائيلي الذي يربط جبهة الحدود اللبنانية مع اسرائيل بالصراع في العمق الاسرائيلي.
فالواضح ان “حزب الله” انطلق من هذه المعادلة الحدودية التي أرساها معتبراً انه حقق واقعين اثنين:
الاول تجسّد في معادلة ميدانية أثقلت كاهل الاسرائيليين كثيرا، وتحديداً عندما فرضت صواريخ الحزب الدقيقة مضافا اليها اسلحة أخرى على نحو 70 ألف مستوطن اسرائيلي النزوح من مستوطناتهم في الشمال الى الداخل الاسرائيلي، والخوف المستوطن نفوسهم الى درجة انهم كشفوا انهم ليسوا في وارد العودة الى منازلهم لأنهم لا يريدون ان يكونوا رهن التجارب العسكرية للحزب، بحسب تعبير أحد المسؤولين المحليين الاسرائيليين. واكثر من ذلك، يظهرون صراحة انهم ليسوا في وارد العودة ما لم يضمنوا إبعاد “قوة الرضوان” التابعة للحزب الى ما بعد نهر الليطاني.
مثل هذا المطلب هو بطبيعة الحال ليس أمراً يسير التحقق ودونه قلبٌ متعسّر للمعادلات يبدو أن واشنطن ولندن سارعتا مسبقا الى رفض اي حديث بهذا الشأن من خلال إلحاحهما على اعادة الاعتبار الى القرار الاممي الرقم 1701. إلا ان القيادة الاسرائيلية تستغل هذا الوضع المستجد، وتستغل استطرادا صراخ المستوطنين النازحين قسراً بغية السعي الى فرض معادلة جديدة أو تحضير المسرح لها.
فاسرائيل أدركت قبل سواها ان الحزب نجح في اسقاط حقيقي للقرار 1701 في اللحظة التي بدأت فيها مدفعيته وصواريخه تستهدف المواقع الاسرائيلية في مزارع شبعا بعد ساعات قليلة من انطلاق “حماس” في هجومها على غلاف غزة، وفي اللحظة التي أصدرت فيها قيادة “اليونيفيل” المركزية في الناقورة الاوامر لدورياتها بالعدول عن التحرك والمرابطة داخل مواقعها وثكنها، ولموظفيها المدنيين بعدم الالتحاق بمراكز اعمالهم فغابت هذه القوة عن بقعة عملياتها بشكل شبه نهائي واكتفت باطلاق المناشدات والتحذيرات من مخاطر الامر.
وهكذا أعاد الحزب التذكير بمقولة سبق للسيد حسن نصرالله أن اطلقها اخيرا، وجاء فيها انه لم يعد يهمّ الحزب تعديل القرار 1701 أو ابقاءه على حاله، فكان ذلك الافصاح عن اعتبار الحزب ان هذا القرار “بات منتهي الصلاحية”.
الواقع الثاني هو ان الحزب استغل التطورات الميدانية المتسارعة بغية فتح ابواب المواجهة المباشرة مع الادارة الاميركية على المستويين السياسي والعسكري، فاعتبر انه حقق عملية “ربط نزاع” مع الاميركي الذي زاد ضغطه اخيرا عليه، ثم ادخل لاحقا كل أذرع ايران العسكرية (محور المقاومة) في العراق وسوريا واليمن وإيران نفسها في عملية مواجهة منظمة هي الاولى من نوعها.
وهكذا وجد الاسرائيلي نفسه انه مطالَب بالرد والمبادرة والفعل في كل هذه التطورات التي بدت تشكل عنصر ضغط له وأذية عليه. وقد تمثلت ردوده من خلال المستويات الآتية:
– التهديد على مدار الساعة بالتفلت من قواعد الاشتباك الكلاسيكية المألوفة والمضبوطة.
– توجيه رسالة قاسية الى الامم المتحدة وامينها العام، لاسيما انه اطلق مع بداية الحرب الشرسة على غزة مواقف تناقض تبريرات القيادة الاسرائيلية لهذه الحرب على غزة. وقد تجلت هذه “الرسالة العملانية” من خلال توجيه النار من المواقع الاسرائيلية في الجليل الاعلى الى سيارة تابعة لـ”اليونيفيل” كانت تمر بمحاذاة الحدود على رغم ان اجهزة الترصد الاسرائيلي بمقدورها التمييز جيدا. لذا عُدّ الحادث مقصودا لتوجيه رسالة مزدوجة الى الامين العام للامم المتحدة والى القوة الدولية نفسها، وفضلاً عن ذلك كشف رغبة اسرائيلية مضمرة للتمهيد لمرحلة جديدة يريدها لاحقا على الحدود مع لبنان، وهو بطبيعة الحال ينتظر وقتا مناسبا له للكشف عنها.
وخلال الايام التي تلت هدنة غزة صار الحزب على بيّنة من ان الاسرائيلي بدأ يجمع الاوراق اللازمة للسير بهذه المرحلة، ومن ابرزها:
– انه لن يسهل عودة النازحين اللبنانيين من قراهم الحدودية الى الداخل اللبناني والمقدر عددهم بنحو 40 ألف نازح من نحو 15 بلدة حدودية، إلا في مقابل الحصول على تعهدات تفتح الابواب امام معادلة جديدة حدّها الاقصى إخلاء “قوات الرضوان” الى ما بعد الليطاني، وحدّها الادنى ترتيبات وضمانات تؤمّن استقرارا وامانا للمستوطنين في الشمال الذين سرعان ما يتحولون الى ضحايا ومشردين مع اول طلقة نار أو توتر على الحدود.
وبحسب المعطيات المتوافرة، لا الاسرائيلي لديه تصور منجز ونهائي لصورة تلك الضمانات، ولا “حزب الله” في مقدوره الدخول في مفاوضات تفضي الى تفاهمات جديدة مع عدوه الاول، لان المعركة عنده لم تضع اوزارها بعد. لذا فان التوجه الاساسي عند الحزب هو في اظهار العين الحمراء للاحتلال الاسرائيلي وتقديم ادلة له على انه مستعد لكل الاحتمالات بما فيها الاسوأ.
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار