سنبقى نفتتح كلامنا ومقالنا بتحايا الحبّ والسّلام على غزّة وأهلها الّذين يخرجون من تحت الرّكام رافعين شارات الصّبر والنّصر برغم الموت والآلام.
ليس تضامناً وتعاطفاً مع كرامتنا وإنسانيّتنا وحسب، بل لأنّهم يخوضون عنّا حرباً يراد لها أن تغيّر وجه الشّرق الأوسط، ولبنان ضمناً، كما صرّح مجرم الحرب بنيامين نتنياهو.
فقد حُفر يوم السّابع من أوكتوبر 2023 في ذاكرة الصّهاينة إلى الأبد، وطغى على هزيمة السّادس من أوكتوبر 1973 وحتّى على «الهولوكوست»، المتخيّلة في جزء كبير منها.
فلا حاجة بعد اليوم لاستحضار شهود خانتهم الذّاكرة، ولا إلى وثائق مشكوك بثقتها لكي يُمثّلوا مشهداً يثيرون به عواطف أحفاد «العم السّام» ليزدادوا دعماً لحقّ «اليهود بالوطن الموعود».
فقد بثّ الفلسطينيّون من أبناء غزّة صوراً مباشرة، ولو صودف وجود «تيكتوكر» بين المندفعين خلف مقاتلي حماس لربّما استغلّ الفرصة وقام بتحدّ مباشر عبر «اللّايف» ليوثّق سقوط كذبة التّفوّق الأمني والاستخباري والعسكري الّذي تدّعيه «إسرائيل» وتستخدمه كمحفّز لتطبيع علاقاتها مع الدّول العربيّة والإسلاميّة.
أمّا وقد مضى أكثر من أسبوعين على ذلك اليوم العظيم في تاريخ العرب والمسلمين وفلسطين فيبدو أنّ سكرة نتنياهو بدأت تتلاشى بعدما هيمن الأميركيّون على قرار الحرب الإسرائيليّة وضبطوا رغبة الانتقام الجامحة الّتي أعمت بصر وبصيرة الحكومة الأكثر تطرّفاً في تاريخ الكيان.
في الإطار، لاحظ الإعلام العبري تغيّر نمطي في مظهر «نتنياهو» في الآونة الأخيرة، حيث «تخلّى عن ارتداء ربطة العنق»، حسب صحيفة «يديعوت احرونوت»، وأشارت الصّحيفة إلى «التزام الرئيس الأميركي «بايدن» في لقائه الأخير مع «نتنياهو» بقواعد اللّباس: بدلة داكنة، وقميص أبيض، وربطة عنق مخططة، ودبوس العلم الأميركي على طيّة الصدر اليسرى، أمّا نتنياهو فاختار خيارا أكثر استرخاء: بدلة داكنة، قميص أبيض ودبوس العلم الإسرائيلي، وبدون ربطة عنق..».
فهل يعيد بايدن عقد ربطة عنق نتنياهو؟
وما كشفته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركيّة قبل يومين كان حزب الله يتحسّب له ويعدّ العدّة لمواجهته، فقد نقلت الصّحيفة بأنّ الرّئيس الأميركي «جو بايدن» طلب من نتنياهو الامتناع عن تنفيذ خطّة وزير الدّفاع «يوآف غالانت» بتوجيه ضربة استباقيّة لحزب الله في لبنان، وهذا ما فعله نتنياهو بالفعل، حسب الصّحيفة.
حسابات الحقل الإسرائيلي لا تتوافق مع حسابات البيدر الأميركي، فواشنطن تدرك معنى انخراط حزب الله في مواجهة مفتوحة وتعرف تداعيات وارتدادات خطوة من هذا النّوع على المنطقة والعالم، وإسرائيل تعلم ذلك أيضا مع فارق جوهريّ أنّ تل أبيب في موقع المهزوم الّذي يريد التّعويض بأيّ ثمن، ولو أدّى ذلك إلى تحقيق طموح نتنياهو القديم بتوريط واشنطن بحرب مباشرة مع طهران.
محرّر الشّؤون الدّوليّة في القناة 13 العبريّة «نداف أيال» قال: «إنّ الحجيج الغربي إلى «إسرائيل» جاء بعدما أدركت أميركا وأوروبا بأنّ ضربة حماس أفقدت «إسرائيل» صوابها، وإنّ هناك حاجة لحمايتها من أعدائها ومن نفسها أيضا كونها تمتلك أسلحة كثيرة وخطيرة وفي نفس الوقت فقدت الثّقة بنفسها والخوف سيطر عليها، ما قد يدفعها للتّورّط بحماقات خطيرة وتشعل حرباً أوسع».
هذه التّسريبات تؤكّدها وقائع الميدان في غزّة ولبنان، فمدى الوحشيّة غير المسبوقة في القصف الإجرامي الممنهج لقطاع غزّة يعكس مدى الجنون الّذي بلغته قيادتا العدوّ السّياسيّة والعسكريّة ولم تجد هذه القيادة سوى المدنيين لكي تشفي غليلها بهم، فتعمّدت تدمير خمسة وعشرين مسجداً وثلاث كنائس ومستشفى، وهي رموز للسّلام والمدنيّة، لتقول للعالم: لا خطوط حمراء بعد اليوم.
أمّا في لبنان فالميدان يؤشّر إلى استعداد «إسرائيل» لتوسيع مدى عمليّاتها في المساحة ونوعيّة الأسلحة.
فكان ملفتاً أوّل من أمس حدثان:
الأوّل توسيع دائرة العمليّات إلى خارج نطاق القرار 1701 في جبل الرّيحان، وقد أدّى القصف إلى سقوط إصابات لدى المقاومة.
الثّاني إدخال سلاح الطّيران بقوّة من خلال شنّ غارات عنيفة على الحدود الفلسطينيّة - اللّبنانيّة في القطاعين الغربي والشرقي.
متخصّص في الشّؤون العسكريّة، ومتابع ميداني لسير العمليّات منذ انطلاقها في 8 تشرين الجاري يقول:
بعد استهداف حزب الله لمراكز العدوّ في مزارع شبعا يوم الثّامن من تشرين الأوّل الحالي بدأت الأمور تتطوّر وتتصاعد، وكلّ يوم يكون أكثر حدّة من سابقه، وقد بلغ يوم السّبت، أوّل من أمس، ذروة التّصعيد، حيث نعى حزب الله أكبر عدد من الشّهداء في يوم واحد، واعترف العدو بعمليّة صعبة ومعقّدة على جيب «هامر» كان يستقلّه أحد قادة الجيش الميدانيين.
سبق هذه التّطوّرات ملاحظة قيادة المقاومة بأنّ العدو بنى خطّ دفاع ثالث بعمق تسعة كيلومترات داخل فلسطين المحتلّة، وهذا يعني تلقائيًّا، حسب المتخصّص العسكري، بأنّ العدوّ سيعمل على توسيع دائرة استهدافه في لبنان بما يوازي مدى تراجعه عن الحدود أي تسعة كيلومترات.
ومن اللّافت أيضا أنّ «إسرائيل» لم تكن بحالة دفاع في تاريخها، فهذه المرّة الأولى الّتي تتّخذ فيها وضعيّة الاستعداد للدّفاع، وللمرّة الأولى يصحّ تسمية جيش «إسرائيل» بـ «جيش الدّفاع»..
ولكن، هل انتهى خطر الحرب المفتوحة؟
كشف موقع «واللاه» العبري أنّ وزيراً في «الكابينيت» يقول: «بنيامين نتنياهو يحبط كل مقترح لتنفيذ عمليات هجومية، هو ببساطة جبان».
يقال في أميركا بأنّ «نتنياهو» ليس رجل حروب كبيرة، وهو يفضّل العمليّات العسكريّة السّريعة والمعارك القصيرة، والرّئيس «جو بايدن» ساعده عندما طلب منه عدم توجيه ضربة لحزب الله في لبنان لأنّه في الأساس لا يرغب بضربة من هذا النّوع، أمّا «يوآف غالانت» فله حسابات مختلفة، وأداء جيشه على الجبهة الشّماليّة يوحي بنيّته توسيع الحرب عبر فرض أمر واقع على حزب الله يضطرّه إلى ردود قاسية تتدحرج معها كرة النّار رويداً رويداً فيأتي الأميركي ليطفئها.. أو يشعلها أكثر!