ثالثاً: التحدّيات والمتطلّبات
إن الاستفادة الصينية من ممرّ المشرق العربي لا تُبنى فقط انطلاقاً من تقدير العوائد ولكن من التكلفة أيضاً، ولذا نورد في ما يلي أبرز التحديات التي قد تواجه الصين في انخراطها في مشروع هذا الممرّ.
● الوضع الأمني الهشّ في هذه الدول الذي يشهد تقلّبات مستمرة بسبب العدوانية الإسرائيلية ووجود المجموعات الإرهابية وسياسة التدخل الأميركية وحدّة الانقسامات الداخلية. لذلك، يلاحظ الباحثون أن الصين تجنّبت الانخراط في المشرق، بالرغم من إدراكها لأهميته وذلك بالاتّساق مع مقاربتها البراغماتية التي تركّز على المكاسب الاقتصادية، وتقلّل من الاستثمار السياسي وأخذ المخاطرة. لكن بعد عام 2013، تبيّن لبكين أن موقع المشرق يجعله حيوياً لمبادرة الحزام بشكل لا يمكن تجنّبه. إن اكتساب الصين لدور أمني في المشرق العربي من مدخل الاستثمارات قد يمثل مساحة تعاون مع واشنطن نفسها في حال استمرت في تخفيض التزاماتها الأمنية تجاه المنطقة أو يشكّل ضمانة لعدم حصول فراغ أمني كبير في حال قلّصت أميركا دورها الأمني في المنطقة بسبب الانقسامات الحادة في واشنطن.
في الواقع، استعادت الدول الثلاث في الأعوام الأخيرة جزءاً أساسياً من استقرارها الأمني بعد هزيمة تنظيمَي «داعش» و«القاعدة» بمساندة أمنية إيرانية وروسية والمجموعات الحليفة لهما، كما نجح لبنان في حماية استقراره الأمني وأنجز ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، فيما بدأت شركة «توتال» في نهاية آب 2023 التنقيب عن الغاز داخل البلوك الرقم 9 مع مؤشرات إلى وجود كميات واعدة يمكن أن تكون رافعة للاقتصاد الوطني. وتطمح هذه الدول إلى جذب الاستثمارات لإعادة تنشيط دورتها الاقتصادية، والتي ترى كتل اجتماعية وازنة فيها أن الصين شريك موثوق في هذا المجال. إن قيام مشاريع للبنى التحتية بين هذه الدول سيمثل رافعة كبيرة لزيادة الأمن في المناطق الحدودية، وهو ما من شأنه أن يجعل الجهود الاقتصادية الصينية تتكامل مع الجهود الروسية والإيرانية وحتى الخليجية. وبينما تبدي كل من السعودية والإمارات اهتماماً بسوريا ولبنان والعراق، يمكن للانخراط الصيني فيها اقتصادياً أن يقدّم فرصاً لمشروعات كبرى يمكن أن تتقاطع فيها مصالح خليجية وروسية وإيرانية.
● تدرك واشنطن أهمية هذه الدول، ولذا تمارس عليها الضغوط الاقتصادية والسياسية وتحاول تطوير روافع نفوذ محلية وتضع عوائق لتكاملها بما ذلك التواجد العسكري غير الشرعي في سوريا عند الحدود مع العراق. ومن المتوقّع أن تسعى واشنطن لفرض عراقيل أمام تطوّر العلاقات الصينية مع هذه الدول، ولا سيّما أمام مشاريع للربط الشبكي بينها. هذا التصوّر ساهم في تجنّب الصين الاستثمار في كل من لبنان وسوريا تحديداً وفضّلت حصر اهتمامها بالدول المستقرة، إذ قدّرت أن المخاطر السياسية أقلّ كما الحال في الأردن و«إسرائيل»، وهي استثمارات متمركزة حول الدولة (تتعامل مع كل دولة بحسب ظروفها)، وفق النمط البراغماتي لسياسة بكين الشرق أوسطية.
لكن في حال استمرت واشنطن في مسار محاولة عزل الصين عالمياً، فلا يبقى أمام الأخيرة إلا خيار المنافسة غير المباشرة مع واشنطن في دول مثل المشرق العربي والرهان على المزايا الجيوسياسية للمشاريع الاقتصادية فيها. فهذه الدول تعاني بدرجة أو أخرى من عقوبات أو ضغوط اقتصادية أميركية، ولكن يمكن تجاوز ذلك من خلال ما طرحه يانغ بينغ من بناء شبكات لمواجهة العقوبات الاقتصادية تضمّ الشركات الصينية والعالمية التي فُرضت عليها عقوبات أميركية، والتي يمكنها بدعم حكومي في البداية أن تعمل معاً في مجالات أو دول تعاني من تلك العقوبات. وكلما تزايدت العقوبات الأحادية الأميركية، زاد عدد الشركات والدول الراغبة بالانضمام إلى هذه الشبكة، بما يضع واشنطن أمام معضلة. وفي الوقت نفسه، فإن هذا الخيار سيحمي الشركات الصينية الأخرى التي يمكنها الاستمرار في العمل بعيداً عن البلدان والمجالات ذات الخطر المرتفع في ما يخصّ التعرّض للعقوبات الأميركية. وهكذا ستتمكّن الصين من الدخول إلى مجالات وبلدان يخشى الآخرون العمل فيها، بما يعزّز من تأثيرها العالمي السياسي والاقتصادي ويمنحها ورقة مساومة كبيرة بوجه العقوبات الأميركية. وفي المشرق العربي يمكن للشركات الإيرانية والروسية المشمولة بالعقوبات أن تنضمّ إلى هذه الشبكة وتعمل في سوريا بشكل أساسي.
● التعاون مع هذه الدول قد يثير حفيظة الشركاء الخليجيين للصين أو «إسرائيل» حيث يمكن أن يُفسر الاستثمار الصيني في هذه الدول عل أنه يعزّز المصالح الإيرانية. لكن من ناحية مقابلة يمكن لهذه الدول نتيجة علاقتها المتميزة مع الصين أن تجد في دور الأخيرة موازناً للحضور الإيراني، إضافة إلى أن دول الخليج تبدي أخيراً رغبة بتطوير العلاقات مع إيران، ولذلك يمكن لهذا الممرّ أن يمثّل فرصة استثنائية لتشبيك المصالح الإيرانية الخليجية تحت رعاية صينية.
● الانقسامات الداخلية في بلدان ممرّ المشرق العربي والهشاشة السياسية التي تعاني منها. في كل من هذه الدول كتل اجتماعية موالية للمشروع الأميركي ومصالحه، إلا أن الكتل المؤيّدة للاتجاه شرقاً أثبتت أنها الأقوى ولكنها تواجه مطالب متزايدة من مؤيديها بإثبات جدوى هذا المشروع بينما يروّج الأميركيون أن الصين شريك غير موثوق وأن هذه الدول لا ملاذ لها إلا اللحاق بواشنطن. وقد تمكّن مؤيدو الاتجاه شرقاً في هذه الدول من تجاوز تحديات السنوات الأخيرة وحفظ مقدار مرتفع من التأثير في البنى السياسية والأمنية، ويحتاجون إلى استكمال ذلك بتنويع علاقات بلادهم الاقتصادية بين الغرب والشرق. يمكن للاستثمارات الصينية في هذه الدول أن تؤكد جدوى خيار الاتجاه شرقاً بما يعزّز من نفوذ القوى الحاملة لهذا الخيار، كما أن قيام بكين بذلك سيكون بمثابة رسالة قوية لشركاء آخرين محتملين. وقد تحاول واشنطن تعطيل هذه المبادرة الصينية بأدوات مختلفة، إلا أنها مضطرة للقيام بذلك بسقف منضبط وبتحفّظ كون المبادرة لها روافع محلية قوية ولأن واشنطن حريصة جداً خلال هذه الحقبة على تجنّب حصول أزمات كبيرة قد تخرج عن السيطرة ولا سيّما في حال كان لها جانب أمني عسكري.
● القدرات الاقتصادية المحدودة لهذه الدول، وبالتالي قدرتها محدودة على استيعاب الاستثمارات الصينية أو التعهّد بدفع تكلفتها. هذا التحدّي يمكن مواجهته وفق جملة مقترحات: أولاً، لدى هذه الدول الكثير من الفرص الاقتصادية الكامنة التي يمكن للاستثمار الصيني فيها أن يعود عليها بمكاسب مالية مثل الاستثمار في التنقيب عن النفط والغاز في سوريا ولبنان أو الاستثمار في مجالات الطاقة العراقية أو الاستثمار في الموانئ السورية واللبنانية. ثانياً، يمكن للاستثمارات الصينية أن تستردّ جزءاً من كلفتها من خلال أن تقوم الشركات الصينية نفسها بتشغيل هذه المنشآت الجديدة والحصول على حصص من الأرباح لسنوات محددة. ثالثاً، جزء من الأزمة الاقتصادية في هذه البلاد مرتبط بسوء الإدارة أو الضغوط الأميركية ولا تعكس نقصاً في الموارد والفرص. وبالتالي، فإن الشراكة الصينية في الاستثمار والتشغيل يمكن أن تحل بعضاً من هذه العقبات، كما أن نجاح التجربة الصينية في عدد محدود من هذه المشروعات سيفتح المجال لظهور فرص إضافية. رابعاً، إن الاستثمار الصيني في المشرق العربي لا يمكن أن يُنظر إليه من منظار الربح الاقتصادي المباشر فقط بل من منظار عوائده الجيوسياسية أيضاً.
خُلاصة
تنبني الخلاصة على ترجيح أن تشهد نهاية العقد الحالي تشكّل وضع دولي يقوم على ثنائية قطبية رخوة ومتنوعة. تشمل هذه الثنائية كلاً من الصين والولايات المتحدة، أما كونها رخوة فيعود ذلك إلى التأثير الكبير للقوى المتوسطة في المناورة والصعود والاشتراط، ومتنوعة تعني أنه سيكون هناك مجالات تجمع الصين وأميركا والقوى الناشئة للتعاون بشأنها (فالعولمة تبقى مصلحة لها لكن بوزن أكبر للشرق وروابط أكبر بين دول الجنوب) بينما ستظهر في مجالات أخرى عدة نُظم بمركزية أميركية أو صينية أو روسية أو غيرها حيث أشكال مختلفة من الحداثة والمؤسسات والمعايير.
تتمركز في دول ممرّ المشرق العربي المقترح أبرز الكتل الاجتماعية المعادية للهيمنة الأميركية، وفيها روافع محلية وازنة تؤيّد الاتجاه شرقاً لتنويع الخيارات في ظل تحوّلات النظام الدولي. يمكن للدور الصيني في تطوير هذا الممرّ أن يُلهم ويحفّز كتلاً أخرى في دول حليفة أو خاضعة للولايات المتحدة في الجنوب العالمي بأن ترى الإمكانات المتاحة للشراكة مع الصين، وأن يطرح مزيداً من الأسئلة بوجه الولايات المتحدة حول دورها العالمي. إن هذه المبادرة المقترحة للصين تنسجم مع رغبة بكين بتجنّب سياسات تصعيدية مباشرة بوجه واشنطن رداً على التصعيد الأميركي المتواصل. بالإضافة إلى أن واشنطن تبرز حرصاً كبيراً على تجنب اندلاع توترات كبيرة في المنطقة، ولذا ستتعامل بحذر مع المبادرات الصينية وستحاول احتواءها لكن شريطة عدم حصول تدهور كبير. وبحسب الوثائق والتصريحات الأميركية، فإن منطقة غرب آسيا والعالم العربي، أو منطقة القيادة الأميركية الوسطى بحسب الجيش الأميركي، هي منطقة مفتاحية لاحتواء الصعود الصيني. إن واشنطن تنظر إلى المنطقة بمنظار صيني، ولذا لا يبقى أمام الصين إلا أن تنظر إلى المشرق العربي بمنظار أميركي أكثر جرأة دون مغادرة السعي لتجنّب التصعيد مع التركيز على اجتذاب مصالح القوى الإقليمية لتتقاطع مع المصالح الصينية في المبادرة المقترحة لممرّ المشرق العربي.
ملخّص ورقة قُدّمت ضمن «المنتدى الدولي الثامن حول آسيا والشرق الأوسط» في جامعة شنغهاي للدراسات الدولية (أيلول 2023)