خلال 20 سنة، بين عامَي 2002 و2022، خسر لبنان 16 مليوناً و400 ألف متر مربع من الغطاء الحرجي نتيجةً لحرائق الغابات، ووصف موقع «غلوبال فورست واتش» عام 2021 بـ«أكثر الأعوام قسوة على الغابات، بعد أن وصلت الخسائر فيه إلى 4 ملايين و250 ألف متر مربع، أي 63% من مجمل الخسائر». وتدفع عكار، وفقاً للمصدر نفسه، فاتورة الحرائق الأعلى، حيث تركّزت الخسائر فيها بشكل أساسي، وكان نصيبها احتراق 390 ألف متر مربع من غاباتها الصنوبرية خلال عام 2021 وحده.

وبحسب أرقام المركز الوطني للاستشعار عن بعد، التابع للمجلس الوطني للبحوث العلمية، اشتعل 3501 حريق منذ بداية عام 2023 حتى اليوم، 503 منها أتت على أشجار مثمرة و709 وقعت في الغابات. ومع انقضاء فصل الصيف وانخفاض الرطوبة يرتفع أكثر مؤشر الحرائق في المناطق الحرجية المتبقّية، وتتحوّل معه لون الخريطة التي ينشرها يومياً المركز الوطني للاستشعار عن بعد إلى الأحمر تحذيراً من «الخطر المستمر حتى الشتوة الأولى». وتتركّز مؤشرات الحريق المقلقة في المناطق الشمالية والبقاعية الجردية حيث ترتفع الحرارة، ومن دون وجود رطوبة مساعدة على التخفيف من خطر الحريق، تصبح إمكانية الاشتعال أكبر.

«أكثرية الحرائق في لبنان مفتعلة» يحسم وزير البيئة ناصر ياسين، لكنّ «مؤشرات خطر وقوع الحرائق هذه السنة مرتفعة بشكل مخيف مقارنةً مع أرقام المؤشر ذاته عن العام الماضي»، ويعيد ياسين ذلك إلى «التغيّر المناخي الذي يؤدّي الى طقس جاف وموجات حر مدّتها طويلة، ووتيرتها أعلى». ومن جهة أخرى، يطمئن ياسين إلى أنّ أكبر الحرائق هذه السنة لم يأتِ على أكثر من 700 ألف متر مربع، وهي أرقام «مطمئنة» حتى اللحظة مقارنةً مع الحرائق في السنوات الماضية التي كانت تتلف ملايين الأمتار.
«الأسباب الطبيعية مستبعدة، إذ لا تحصل صواعق خلال مواسم الجفاف»، بحسب المستشار الإعلامي للحركة البيئية اللبنانية مصطفى رعد. ولكنّ «الحرائق مكلفة»، يضيف رعد، وتناهز خسائرها السنوية 125 مليون دولار، ولا سيّما عندما تأتي على أشجار الصنوبر البري والمثمر والسنديان التي تغطي مساحةً تصل إلى 12 مليون متر مربع من الأراضي اللبنانية، وتتعرض للتدمير بشكل متعمّد إما بالحرائق، أو لأسباب أخرى مثل التوسّع العمراني.

تتعدّد الأسباب والحريق واحد، كما الخسارة، في المساحات الحرجية، إذ تسببت الحرائق وحدها في فقدان لبنان 28% من الأحراج خلال السنوات العشر الماضية. ويقدّر ياسين بـ«أنّ أكثرية أسباب الحرائق تعود للإهمال والأخطاء البشرية بشكل أساسي، مثل حرق الأعشاب والقش وهي عادة سيئة تمارس في القرى خلال فصل الجفاف، أو مخلّفات النفايات في المكبّات العشوائية كما المواقد المتروكة من دون انتباه». وهذه الأسباب يمكن تداركها لو وُجد عدد كاف من حراس الأحراج.


ويحمّل رعد البلديات جزءاً من مسؤولية اندلاع الحرائق في الأحراج الواقعة في نطاقها، إذ لا تقوم بإزالة «الفيول الطبيعي»، أي الأعشاب اليابسة القابلة للاشتعال ونشر النار بسرعة كبيرة. وأضاف رعد إلى الأسباب التي ذكرها ياسين لجوء السكان في القرى المرتفعة عن سطح البحر إلى «إقامة مشاحر لإنتاج الفحم خلال هذا الوقت من السنة الذي يأتي على شجر السنديان، فضلاً عن التحطيب، وهذا ما يجري في منطقة الشوف». ولفت إلى أن «الحرائق وصلت للمرّة الأولى إلى محميات الأرز». فيما شدّد ياسين على «ضرورة التشدّد في تطبيق المادة 90 من قانون الغابات، التي تنص على منع الحرق على مسافة تقل عن 500 متر عن الأحراج خلال موسم الحرائق الممتد من 1 تموز وحتى 31 تشرين الأول». وحول الجهة المسؤولة عن تطبيق القانون، أجاب: «وزارة الزراعة عبر مراكز الأحراج»، مؤكّداً «أنّ الإذن للحرق مشابه للإذن الخاص بالتشحيل». أما وزارة البيئة، فـ«يقتصر دورها على مراقبة المحميات، وحيث هناك إدارة وموظفون تطلب الوزارة التشدّد في تطبيق قانون الغابات ولا سيّما خلال موسم الحرائق». ودعا رعد الى «تعديل قانون حماية الغابات، فقيمة الضبط لا تتجاوز 500 ألف ليرة للمخالف الذي يتسبّب بحريق كبير، أو يقطع أشجاراً حرجية». وحمّل القضاء مسؤولية كبيرة في حماية الثروة الحرجية، فـ«المعتدي المدعوم سياسياً لا يدخل إلى المخافر لأكثر من 15 دقيقة».

اشتعل 3501 حريق منذ بداية عام 2023 والخطر المستمر حتى الشتوة الأولى
 

في المقابل، أخذت مكافحة الحرائق أشكالاً جديدة أكثر تأقلماً مع الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد، فجهاز الدفاع المدني فقد بشكل كبير قدرته على الحركة في الفترة الماضية، والآليات تنقصها الصيانة، والتدريب والمعدّات أصبحا عملتين نادرتين. لذلك، «منذ حوالي السنتين تعتمد وزارة البيئة على مجموعات من المتطوّعين في المناطق لرصد حرائق الغابات»، وهذه الأخيرة «خليط هجين من أجهزة البلديات والدفاع المدني في المناطق وجمعيات المتطوعين، يعملون على رصد الحرائق والإبلاغ عنها، وحيث هناك إمكانية للتدخل يكونون داعمين للدفاع المدني». وأضاف: «صار عندنا مجموعة في كلّ منطقة، وهناك مجموعات أكبر من غيرها». أمّا تمويل هذه المجموعات فـ«إمّا على عهدة البلديات أو عبر المانحين والمنظمات الدولية».



إعادة التشجير عملية مضرّة!
تحويل الغطاء النباتي الأصلي إلى غابة عبر التشجير قد لا يوفّر نفس البيئة الحيوية السابقة للأصناف المحلية، كما أن الإدارة غير الممنهجة للتشجير قد تؤدي إلى إنتاج محاصيل من صنف واحد تفتقر إلى التنوع النباتي والعشبي وتقلّل من المواطِن البيئية الملائمة للعديد من الأصناف التي تعيش في الغابة.
 

«أكبر خطأ هو التدخل في تشجير المناطق المحترقة، والتدخل في نوعية الغطاء النباتي»، بحسب المستشار الإعلامي للحركة البيئية مصطفى رعد. الناس لا يصبرون، فـ«أشجار طائفة الصنوبريات تحتاج إلى وقت طويل كي تكبر، وفي المقابل تُستبدل بشجر من نوع آخر مثل الليلندي الوطني الذي يكبر بسرعة كبيرة، ويؤثر على الأشجار الطبيعية، كما يجب انتظار اكتمال الدورة البيئية والتنوع من ناحية عودة الحيوانات والحشرات التي تلقّح». ويحذّر رعد من «استيراد أنواع جديدة من الشجر الغازي، الغريب عن الطبيعة اللبنانية، ما يغيّر من طبيعة الأشجار». من جهة أخرى، هناك برامج تشجير ناجحة، ولكنّها لا تُتابع، بل تنتهي مع انسحاب كاميرات الإعلام، ويُترك الشجر الصغير ليموت يابساً بسبب قلّة المياه، وإهمال البلديات.
الأستشعار عن بعد
بواسطة الأقمار الاصطناعية، يضع المركز الوطني للاستشعار «خريطة تتضمن كل المعلومات حول إمكانية وقوع الحرائق، ويحدّد نسبة خطر الاشتعال في المناطق الأكثر عرضةً، ويضع المؤشر بين أيدي البلديات والدفاع المدني»، بحسب مدير‌ الأبحاث في المركز ومسؤول منصة الإنذار المبكر شادي عبد الله. وفي حال وقوع الحريق، يمدّ المركز وحدة إدارة المخاطر، وفرق المستجيب الأول على الأرض كل 6 ساعات بالمعلومات لتحديد سرعة انتشار النيران، ودرجة تقدمها، وشدّة الخط الناري، ومركز الحريق. وبعد إخماد النيران، يقوم المركز بـ«تقييم الحريق وشدّته باستخدام صور الأقمار الاصطناعية لمعرفة المساحات الخضراء التي أتت عليها النار، كما يشارك في وضع إحصاءات بالأضرار».