29-08-2023
مقالات مختارة
|
النهار العربي
راغب جابر
راغب جابر
ماتت الطفلة نايا حنا ابنة السبع سنوات يوم السبت، بعد نحو ثلاثة أسابيع من إصابتها برصاصة مما يسمى في لبنان الرصاص الطائش في بلدتها الحدث على تخوم العاصمة وضاحيتها الجنوبية ومقر رئاسة الجمهورية (الخالي حالياً) في بعبدا. ماتت الطفلة البريئة التي أحزن موتها اللبنايين (إلا الذين أدمنوا إطلاق الرصاص في الهواء)، فيما لا يزال القاتل المجهول – المعلوم حراً طليقاً، يجهز سلاحه لجولة أخرى من إطلاق الرصاص في الهواء فرحاً بنجاح ابنه أو ابنته في شهادة البريفيه (السخيفة) أو حتى في الصعود من صف الحضانة الأولى إلى صف الحضانة الثانية، أو انتشاء بمولد طفل ذكر، أو افتخاراً بظهور زعيم، أو تعيين قريب موظفاً أو بترقية آخر أو حزناً على وفاة عزيز أو احتفالاً بزفاف رفيق أو رفيقة... إلى ما هناك من مناسبات عظيمة لا تكتمل عظمتها إلا بإهراق الرصاص والدم معاً.
ليست نايا الجميلة التي أحرق موتها قلوب عائلتها ومحبيها الأولى التي يخطفها الرصاص الذي يسمونه طائشاً للتخفيف من وقع الجريمة. سبقها كثيرون سقطوا قتلى وجرحى في كل مناطق لبنان التي تشترك في همجية بعض أهلها وتخلفهم وإصرارهم على هذه العادة القبيحة التي لا تمت إلى الشهامة والبطولة والأخلاق والوفاء والرجولة بشيء. رجال ونساء وأطفال يسقطون ضخايا على الطرق وعلى الشرفات وفي السيارات، وحتى داخل منازلهم، برصاص المسلحين الذين يطربون لأزيز رصاصهم الذي يعلمون تماماً أين سيسقط ويقتل أو يؤذي. إنه الخبل وانعدام التفكير والضمير بأوضح تجلياتهما. ما هذا الإدمان على الشر والقتل؟ وأي متعة أو لذة يجلب الرصاص المهدور من داخل الأحياء والمقابر وساحات الأعراس وأسطح المنازل وشرفاتها؟ بماذا يحس مطلق الرصاص نحو السماء، لا بل بماذا يشعر هذا الوحش الذي قتلت رصاصته طفلة مثل نايا؟
هل لا تكتمل شهادة الشهيد ولا يدخل الجنة إلا بإرهاب الأطفال والنساء تلاميذ المدارس وتعريض الناس للخطر؟ هل لا يهنأ العروسان بشهر عسلهما إلا إذا سال دم الأهل والأقرباء على قارعة الطريق؟ ألا يفرح التلميذ بنجاحه إذا لم يطلق والده "مشطين" ليعلم القاصي والداني أن ابنه النابغة صار "يفك الحرف"؟ هل لا تُعرف شعبية الزعيم إلا بمقدار ما يحرقه أنصاره من رصاص عادي ومخطط وحارق خارق فوق رؤوس الناس وأرزاقهم وداخل أعصابهم التالفة؟
إطلاق الرصاص في الهواء عادة لبنانية قديمة ومتأصلة، وعربية أيضاً، حيث السلاح وسيلة للحماية الشخصية وللقتل في آن واحد، وقد تكون ظروف الحياة المعقدة والتقاليد العشائرية وغياب الدولة وعدالتها والحروب المتتالية والصراعات الأهلية أدت إلى الإقبال الواسع على اقتناء السلاح الذي قد لا يخلو بيت لبناني من قطعة منه، وربما من قطع عديدة بحسب أعداد الرجال في كل بيت. لكن أن يصبح السلاح المناسباتي منبع تباه برجولة فارغة وتعويضاً عن نقص في المكانة الاجتماعية وفي الأهلية السياسية، فذلك الجهل بعينه.
يسمونه الرصاص الطائش، وعملياً هو ليس بطائش. مطلق النار في المدينة يعرف تماماً أن رصاصه سيسقط في المدينة وليس في الصحراء، وفي المدينة ناس وسيارات ومنازل فقط، عندما يوجه بندقيته نحو الأعلى أو في أي اتجاه لن يذوب المعدن في الجو. سيقطع بضع مئات من الأمتار ويعود ليثقب رأساً أو قلباً أو زجاج سيارة أو نافذة منزل.
مطلق النار في الهواء أقوى من الدولة، هو محمي بتواطؤ لم يعد خفياً بين من يحميه من القوى النافذة ومن يتوجب أن يسحبه إلى الحبس. ما يعلن أحياناً عن توقيف مطلقي الرصاص ابتهاجاً ليس إلا ذراً للرماد في العيون.
إطلاق الرصاص في لبنان هو ظاهرة سياسية بامتياز، تتفاوت درجات المسؤولية عنها بين طرف وآخر، لكنها مستمرة ما دامت السياسة لا تعرف من السياسة إلا اسمها، فيما ترتفع رايات النكايات والتحدي والعصبيات المذهبية والطائفية
أخبار ذات صلة
من دون تعليق
الرصاص الطائش يقتل اللبنانيين | اصابة جديدة