طبعاً هذا ليس عنواناً واقعياً، لكن هذا ما يفكّر به العالم أجمع. لقد انتهى طبّاخ بوتين يفغيني بريغوجين رئيس مجموعة مرتزقة "فاغنر"، أشلاءً متفحمة جراء سقوط طائرته الخاصة التي ضمّت معاونيه الكبار وفي مقدّمتهم الرقم اثنان في "فاغنر" ديميتري اوتكين، ولم يرف للرئيس الروسي جفن.
ثمة روايات عدّة حول مقتل بريغوجين. الأولى تتحدث بالطبع عن تصفية تقليدية قام بها بوتين الذي ترصّد "طبّاخه" وتحيّن الفرصة لاغتياله، والثانية تقول إنّ جهاز الاستخبارات العسكرية الأوكرانية الشديد الفعالية في الداخل الروسي، قام بعملية تفخيخ للطائرة في موسكو، والثالثة تقول إنّ ما حصل هو نتيجة خطأ تقني أسقط الطائرة بمن فيها. لكن تبقى الفرضية الأولى الأكثر منطقية. و الحال أنّه لقراءة هذا الحدث الذي أنهى مسيرة رئيس مجموعة "فاغنر" بعد نحو شهرين على تمرّده على قيادة الرئيس الروسي والكرملين بشكل عام، يجب تذكّر نهاية شخصيات روسية مهمّة "أزعجت" في ما مضى الرئيس الروسي، وكانت تنتمي إلى دوائر الاوليغارشيين التي يستند إليها حكم بوتين والدولة العميقة في روسيا. بعضهم "انتحر"، وبعضهم سقط من شرفة المنزل أو الفندق او تسمّم بمادة "البولومنيوم" التي صارت بمثابة توقيع باسم فلاديمير بوتين. اما بعضهم الآخر الأكثر قوة و خطورة كبريغوجين، فسقطت طائرته الخاصة به وبمن معه!
في حالة هذا الأخير كانت كل دوائر الاستخبارات الغربية تتوقع له مصيراً سيئاً، حتى بعدما أنهى تمرّده على أبواب موسكو، ثم انتقل رسمياً إلى بيلاروسيا في إطار تسوية أنجزها الرئيس فيكتور لوكاتشينكو مع القيادة الروسية. قلّة من المراقبين الضالعين بالملف الروسي توقّعوا أن يفلت بريغوجين من انتقام فلاديمير بوتين، لا بل من انتقام الدولة الروسية العميقة. هذا هو لبّ الموضوع: الدولة العميقة في روسيا التي ينتمي إليها بوتين ويرئسها في العلن، لكن سلطته تستند إليها، وتقوم على توافق أجنحة هذه الدولة العميقة حول شخصه، وحمايتها لقيادته. والحال أنّه ورغم كل المظاهر في موسكو التي يُراد للخارج أن يراها، فإنّ الدولة العميقة التي تشكّل حجر الرحى في حكم الكرملين، هي أساس القرار الفعلي. وهي عبارة عن تشكيلٍ بمروحةٍ عريضةٍ تضمّ المؤسسات الأمنية والجيش بفروعه كافة، والكنيسة والمؤسسة السياسية والاقتصادية والثقافية. إنّها القاعدة التي تقوم عليها السلطة. اما قيادة بوتين والمظاهر الإمبراطورية التي يضفيها على نفسه وصورته، فهي ما تريده الدولة العميقة لا ما يريده بوتين فحسب.
هذا هو العدو الحقيقي الذي طوى بلمحة بصر صفحة يفغيني بريغوجين. وبدلاً من أن يرميه مع مرافقيه من النافذة، او الشرفة، رماه من على علو 20000 قدم!
لن تقوم لـ "فاغنر" قيامة إلاّ إذا تقرّرت "إعادة تأهيل" المجموعة وتعيين رئيس جديد لها يعيدها إلى الخضوع التام للدولة العميقة. مع ذلك، يمكن أن يكون اتُخذ قرار بتصفية المجموعة وتوزيع الراغبين فيها على شركات مرتزقة أخرى. لكن ظاهرة بريغوجين ستبقى استثنائية في تاريخ ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وقيام حكم بوتين. أما تداعيات تصفية "الطبّاخ" فيصعب القول إنّها ستغيّر شيئاً في الكرملين في المدى المنظور!