21-08-2023
عالميات
|
النهار العربي
زار وزير الخارجية الإيراني جدّة الأسبوع الماضي، مسبوقاً بتهديدات للسعودية من زعيم الحوثيين في اليمن، ومتبوعاً بهجمات على السعودية من إعلام "حزب إيران/ حزب الله" في لبنان. الزيارة معروفة الأهداف لمتابعة مسار العلاقات المستعادة بين الدولتين. أما التهديدات فتبحث عن/ أو تحثّ على "تغيير" ما تتوخّاه طهران في سياسات الرياض.
الحوثيون أمام لحظة حقيقة، فلا مجال للاعتراف بهم حكاماً خالصين متسلّطين على عموم الشعب اليمني، ولن تفاوضهم الأمم المتحدة ولا الولايات المتحدة ولا السعودية لمنحهم هذا الاعتراف، استناداً إلى أنهم يسيطرون عسكرياً على معظم شمال اليمن، وما عليهم سوى الإقرار بالواقع، وهو أن عودة اليمن إلى الخريطة وعودة الاستقرار إليه لن تتمّا إلا عبر حلٍّ سياسي تشارك فيه الفئات اليمنية جميعاً.
و"حزب إيران" اللبناني هو أيضاً أمام لحظة حقيقة، إذ إنه يصادر مؤسسات الدولة، معطّلاً انتخاب رئيس جديد للجمهورية ومتحكّماً بالمجلس النيابي ومجلس الوزراء، ويتوقّع أن ترضخ الأطراف الداخلية وحتى الخارجية (مجموعة الدول الخمس المعنية بلبنان) لإرادته فتفاوضه للوقوف على شروطه كي يغيّر النظام ويفكّ أسر الدولة اللبنانية لكن يبقى متحكّماً بها، ومستمراً في مشروع العبث بالأمن الإقليمي عبر لبنان وسوريا وغزّة وبعض مناطق الضفة الغربية في فلسطين.
هدّد زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي باستهداف مشروع "نيوم" وسفن البحرية الأميركية في مياه الخليج، بالتزامن مع تصاعد التوتر الأميركي - الإيراني في المنطقة، رغم اتفاق تبادل السجناء والإفراج عن عشرة مليارات دولار مجمّدة لإيران لدى كوريا الجنوبية والعراق. جاء التهديد بعد تعثّر الاتصالات الأممية والسعودية المباشرة مع الحوثيين لإقناعهم بتنفيذ كل بنود هدنة نيسان (أبريل) 2022 وتمديدها، للانتقال بعد ذلك إلى ترتيب مفاوضات تفضي إلى عملية سياسية. ولعل في عودة تيم ليندركينغ المبعوث الأميركي الخاص لليمن إلى المنطقة، كما في وصول وفد عماني إلى صنعاء، دليلاً إلى هذا الإخفاق. أما سببه فيعود إلى أن الحوثي داوم على عدم الاعتراف بالحكومة اليمنية الشرعية المعترف بها دولياً، وعلى المطالبة بمكاسب وتنازلات تمكّنه من الاقتراب ولو خطوة واحدة يعتقد أنها تضفي "شرعيةً" ما على انقلابه، ليعاود التوتير بعدئذ كي يحقق خطوةً أخرى. أما بالنسبة إلى التهديدات الأخيرة فإن قرار تنفيذها عند من أوعز بها، أي "الحرس الثوري" الإيراني، وليس عند عبد الملك الحوثي.
سيظل التقدّم نحو حلّ الأزمة في اليمن محكاً أساسياً للانفراج المنسوب إلى "تطبيع" العلاقات بين السعودية وإيران. هناك مَن توقع أيضاً انفراجات في أزمات سوريا والعراق ولبنان، بل إن طهران نفسها توقّعتها آملةً تدفق أموال سعودية وخليجية إلى هذه الدول لتساهم مباشرةً أو غير مباشرة في تخفيف الأعباء عنها ودعم حالات النفوذ والسيطرة التي أنشأتها هناك. غير أن الشكاوى المبطّنة التي أبداها بشار الأسد في مقابلته التلفزيونية الأخيرة أوضحت خيبة أمله، وبطء الاستثمارات الخليجية في العراق مقارنة باندفاعها إلى الانفتاح على تركيا، قلّصا من الطموحات الإيرانية. ولا شك في أن النهج "الحيادي" الذي اتّبعته الرياض في مقاربة الأزمة اللبنانية، مع اللجنة "الخماسية"، ليس مريحاً لطهران، لأنه أفقدها إمكان المساومة على إقامة حال "تقاسم نفوذ" خادعة مع الرياض في لبنان، لكن التجربة برهنت أن ذلك النهج صحيح بجوانبه السياسية والاقتصادية، إذ ليس معقولاً أن تعود السعودية إلى نمط المساعدة السابق الذي خدم "منظومة الفساد" ويراد له الآن أن يموّل دولة يهيمن "حزب إيران" على كل مفاصلها.
على هذه الخلفية جاء حسين أمير عبد اللهيان إلى جدّة، فـ"التطبيع" كما تصوّرته طهران يتأخّر في الإقلاع. ليس استئناف العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح السفارتين والقنصليات ما كان يشغلها، بل إنها متعجّلة، ومتعجّلة جداً، لتفعيل "التعاون الاقتصادي"، وليس في التجارة التي لا مشكلة فيها (تقديرات التبادل بينها وبين الإمارات تكاد تفوق 22 مليار دولار، وثمة اتفاقات مع قطر لرفعه إلى 3 مليارات) بل في "مشاريع موحّدة ومشتركة"، كما اقترحت لاستغلال "حقل الدرّة". هنا لا بدّ من أن يدقّ ناقوس العقوبات الأميركية (والغربية المستجدّة بسبب المساعدة الإيرانية العسكرية لروسيا في حربها على أوكرانيا)، ليذكّر طهران بالواقع الذي زُجّت أو زَجّت نفسها فيه. ولديها تجربة في الاتفاق الاستراتيجي الذي أبرمته مع الصين (آذار/ مارس 2021)، إذ إن معظم المشاريع التي ينص عليها ويُعتمد فيها على القطاع الخاص الصيني لم يُنفّذ بسبب العقوبات المرتبطة بالبرنامج الصاروخي الإيراني ويُفترض أن ترفع تلقائياً في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل (وفقاً لنصّ الاتفاق النووي الموثّق لدى الأمم المتحدة منذ 2015).
الأكيد أن الدولتين حريصتان على استدامة العلاقة بينهما، كما أنهما ملتزمتان التعاون في المجالين الأمني والاقتصادي، بموجب اتفاق بكين الذي أنهى عملياً حال الصراع بينهما. ما يجري حالياً هو استكشاف إمكانات التعاون وأولوياته التي يبرز فيها الأمن على الجانب السعودي - الخليجي، فيما تركز إيران على الاقتصاد. ومرّر عبد اللهيان في تصريحاته عبارة "تحقيق الأمن والتنمية في المنطقة لا يمكن أن يتجزّأ"، بعدما قال أيضاً إن "بإمكاننا العمل (معاً) في الشؤون الفورية والعاجلة كالبيئة والإغاثة والإنقاذ". أي أن طهران تتطلّع إلى أي اتفاقات تعاون لإثبات أنها تسجّل نقاطاً في المنطقة، فيما تبقى عينها على واشنطن، التي استاءت أولاً من اتفاق "التطبيع" وبخاصة من الرعاية الصينية له، ثم تعايشت معه وتحاول التكيّف مع التوجّهات الجديدة للسياسة الخارجية السعودية، أو هكذا تُظهر. تلك التوجهات تبدو أيضاً مربكة لإيران نفسها التي تجد صعوبة في فرض مفهومها الخاص لـ"التطبيع" مع السعودية ليتوافق مع سياساتها المناوئة للوجود الأميركي في الإقليم.
لم يفوّت عبد اللهيان المناسبة، بل أكّد استمرار إيران في "دعمها القضية الفلسطينية"، ما عكس انشغال طهران بما يتردّد عن مشروع أميركي لـ"تطبيع" العلاقات بين السعودية وإسرائيل. قال الوزير الإيراني إن "الكيان الصهيوني يسعى إلى بثّ الفرقة واحتلال المنطقة"، متجاهلاً من جهة أن "دعم" بلاده يبثّ الفرقة بين الفلسطينيين أنفسهم، ومن جهة أخرى الشروط التي دأبت الرياض على طرحها وأبرزها انخراط إسرائيل في "حل الدولتين"، قبل أي "تطبيع".
والواقع أن السعودية، بعدما حدّدت توجّهات سياساتها الإقليمية والدولية، لم يعد الأمر محصوراً لديها في خانة "التطبيع" مع هذه الدولة وتلك، بل بمدى استعداد الدول المعنية، خصوصاً في المنطقة، للالتقاء معها على مفهوم مستقبلي لعلاقات قائمة على المصالح والتعاون
أبرز الأخبار