إلى الآن، يُحمّل الحوار المستجدّ بين «التيار الوطني الحر» و»حزب الله» الكثير من التكهنات والاستنتاجات السابقة لأوانها، بشكل يتجاوز وقائعه. الخطّ المفتوح بين حيلفي «مار مخايل» صار حدثاً بحدّ ذاته بعدما استخدم رئيس «التيار» جبران باسيل كل المناورات المتاحة، من «التنكيل» بترشيح رئيس تيار «المرده» سليمان فرنجية إلى جرّ المعارضة إلى تقاطع حول ترشيح جهاد أزعور، وما بينهما من شكاوى وانتقادات قادها بحقّ حليفه، أي «حزب الله»، لدرجة التهديد بتمزيق التفاهم على خلفية عدم مجاراته في بناء الدولة!
فقرر باسيل أن يعوّض كل ما فاته في عهد الرئيس ميشال عون وما كان بإمكانه تحقيقه مع حليفه، من خلال ثلاث أوراق: اللامركزية الموسّعة، الصندوق الائتماني، وبناء الدولة. أجل بات مشروع بناء الدولة يُختزل بورقة من قياس A4 ببضعة بنود!
في الواقع، فقد تبيّن أنّ هذا الحوار جارٍ على قدم وساق بين باسيل ومسؤول وحدة التنسيق والارتباط وفيق صفا. لكنه لا يزال عند «المقبّلات»، على قاعدة «هات ما عندك من كلام». خلال هذه الجولة، لا تزال الطابة في ملعب باسيل، يفضف ما لديه وما يبتغيه (أقله المعلن)، قبل أن تنضج المقدّمات لينتقل البحث إلى نقاش جديّ مع الأمين العام السيد حسن نصر الله. عندها قد ينتقل البحث إلى مستوى آخر، قد يشمل حينها الأسماء المرشحة لرئاسة الجمهورية.
ولكن هذا المسار لا ينزع الشكوك التي تحيط به، وتحديداً من جانب «حزب الله» حيال حقيقة ما يدور في رأس باسيل وطبيعة أهدافه المضمرة والمكتومة: هل اقتنع فعلاً أنّه لا شريك فعلياً له إلّا «الحزب» فقرر العودة إلى بيت الطاعة في محاولة لتحسين شروطه؟ هل هي لعبة حرق الوقت لبلوغ استحقاق قيادة الجيش ليحيل ترشيح العماد جوزاف عون إلى التقاعد السياسي؟ هل سيكون باسيل فعلياً على يمين عهد سليمان فرنجية كما كان «الحزب» يخطط فيضمن له أن الشراكة تحميه وتحفظ مكاسبه؟ من هو مرشّح باسيل الفعلي؟ هل صحيح هو جبران باسيل لا أحد غيره؟
هذه عينة من الأسئلة والتساؤلات التي ترافق مجرى الحوار المستجد بين باسيل و»الحزب» فتغلّفه بالكثير من الحذر والريبة، وتدفع بمسؤوليه إلى العدّ للعشرة قبل أن يردوا على مبادرة رئيس «التيار الوطني الحر».
بالوقائع، تبيّن أنّ «الحزب» يتعامل مع معطيين اثنين في ما خصّ عودة باسيل إلى حضن «تفاهم مار مخايل»:
- المعطى الأول هو منطق الأوراق المكتوبة التي يركن إليها باسيل لترجمة طروحاته وأفكاره إلى وثائق. ويفترض أن يكلّف «الحزب» لجنة حقوقية - قانونية تنكب على دراسة تلك الأوراق وتفنيدها، لتحضير ردّ مكتوب يفصل بين ما يمكن لـ»الحزب» أن يقبل به وما لا يمكنه القبول به وما يمكن مناقشته، لا سيما وأنّ المطروح عناوين كبيرة فضفاضة جداً تختزن الكثير من الألغام.
- المعطى الثاني هو أشبه بحوار غير مباشر يحصل بين «الحزب» وباسيل من خلال رسائل أصدقاء مشتركين، حيث تفيد المعلومات عن تلقي «الحزب» نصيحة من مسؤول كبير مقرّب من رئيس «التيار الوطني الحر» يدعوهم فيها إلى إهمال كل الأوراق التي تردهم من الأخير للتركيز على مسألة واحدة: فليحصل باسيل على وعد بتزكيته رئيساً للجمهورية بعد ست سنوات وخذوا منه وعداً بالتصويت لفرنجية!
ولعل طبيعة هذه الإشارة غير الرسمية هي التي ترفع من منسوب الشكوك في أذهان مسؤولي «الحزب» حيال ما يريده باسيل، وكأنّ كلّ ما يقوم به في الإعلام وفي القفز بين الضفاف السياسية والاصطفافات، يهدف فقط إلى شطب كل الترشيحات المنافسة، ليبقى وحيداً على الحلبة ويفرض نفسه مرشحاً جدياً.
ومع ذلك، لا يزال من المبكر الحكم على مآلات الحوار بين باسيل وحلفائه. ثمّة تدرّج في التعاطي بينهم، ولكلّ منهم مصلحة في تفعيل هذا المسار وتزخيمه، لا سيما في ضوء التطورات الاقليمية التي قد تجعل التقاؤهم أكثر من تقاطع موضعي. اذ تدلّ المعطيات إلى أنّ الاقليم يتّجه إلى مزيد من التأزيم لا سيما على مستوى المشهديتين السورية واليمنية، الأمر الذي قد لا يعفي لبنان من تداعياته وتأثيراته.
ولهذا، يزين «الحزب» حساباته الرئاسية بميزان التطورات الخارجية التي تنذر بالتصعيد والتشدد اللذين يدفعانه إلى التمسك بترشيح فرنجية أكثر من أي وقت مضى. أول أهدافه على المدى المنظور هو تأمين عودة باسيل لضمان أصوات «لبنان القوي»، ومن ثم سيكون الشغل على «اللقاء الديمقراطي» لا سيما وأنّ رئيسه السابق وليد جنبلاط كان يتذرّع بالمعارضة المسيحية لرئيس «المرده» ليحجب أصوات «اللقاء»، وبالتالي قد تسقط عودة باسيل إلى هذا المحور، ذريعة جنبلاط، كما سبق ووعد صديقه رئيس مجلس النواب نبيه بري، لينضمّ بدوره إلى هذا المعسكر.
ومع ذلك، لا يهمل «الحزب» عامل الانخراط الأميركي في خضمّ الرئاسة، والذي بيّنته وقائع الجلسة الانتخابية الأخيرة التي حصلت في 14 حزيران الماضي، ما قد يحول دون التئام أي جلسة انتخابية جديدة، حتى لو وضع فرنجية في جيبه حوالى 70 نائباً. سيكون هناك ثلث معطل يقفل باب البرلمان. ولكن عندها سينفض «الحزب» يديه من تهمة التعطيل، بانتظار تبدّل المعطيات.
كل هذه الفرضية مبنية على احتمال أن ينضم باسيل إلى مركب سليمان فرنجية، وهو احتمال غير مضمون أبداً. وحتى لو فعلها «الحزب»، وخطف الرئاسة لمصلحة رئيس «المرده»، فسيكون مشوار العهد صعباً جداً، والى مزيد من الانهيار والضغط.