04-08-2023
مقالات مختارة
|
نداء الوطن
لوسي بارسخيان
لوسي بارسخيان
حياتهم لم تنته ساعات ذاك الليل الطويل ولم يبزغ فجره بعد. هو الرابع من آب ما زالوا يعيشونه كل يوم، ليس كذكرى بل كواقع يتعايشون مع تداعياته في كل لحظة. جرحى ومصابون غيرت الكارثة حياتهم، جعلتهم في منطقة وسطى بين الحياة والموت، الذي يتمنونه أحياناً. جريمة ضد حقوق الإنسان، ضد حقه بالعيش والأمان والرعاية، يحاولون تغطية خيوطها وإسكات كل من يحاول كشفها، فيقتلون الضحايا مرتين ويمنعون على المصابين شفاء جروح النفس والجسد.
6،07 لحظة بعثرت حياتهم، ولا يزالون حتى اليوم يحاولون لمّ شتاتها. مصابون، جرحى ومعاقون يموتون موتاً صغيراً كل يوم، في أجسادهم كما في أرواحهم ترك الانفجار الجريمة كلوماً، قليلون تخطوها وكثر يعانون ندوبها. حالات صعبة قاسية واكبنا معاناتها وعرفنا كم هو قاس الاستهتار بأرواح الناس وآلامهم وكم هو مؤلم أن تتغلب النقمة والحقد على الألم.
ليديا وفاة تأجلت
1057 يوماً عاشتها ليديا فرعون بعد انفجار الرابع من آب ورحلت بصمت في الثامن والعشرين من شهر حزيران الماضي. منذ اللحظة الأولى كانت مصرة على أن يسجل اسمها بين لائحة الضحايا وظلت حتى اللحظة الأخيرة تصر أن وفاتها حين تحصل لن تكون إلا موتاً مؤجلاً بعد ذاك اليوم المشؤوم. منزلها الكائن مباشرة تجاه العنبر رقم 12 في المرفاً والأقرب إليه انفجر من هول الانفجار وتشلعت جدرانه وتهدم فوق رأس ليديا وزوجها عصام. البيت الذي أمضى فيه الزوجان 57 عاماً من الحياة المشتركة واحتضن العائلة والأبناء والذكريات وكان يفترض به أن يحتضن أيام التقاعد الهادئة، هوى فوق رأسيهما وأصيب الإثنان إصابات بالغة.
1500 قطبة احتاجت ليديا فرعون بعد الانفجار لمداواة جراحها التي خلفها الزجاج المتناثر الذي انغرز في أنحاء جسمها. توفيت وزجاج بيروت لا يزال يملأ جسدها كما تقول ابنتها لارا. خسرت ليديا أكثر من 60% من سمعها بعد الانفجار واحتاجت الى عمليتين جراحيتين مباشرة إثر الإصابة في ساقيها لتستمر بعد ذلك رحلة الألم والعذاب مع عمليات متكررة لإزالة قطع الزجاج من المناطق الحساسة بعد أن باتت تهدد الوظائف الحيوية. أصيب زوجها عصام في رأسه وجسمه وإن كانت الإصابة أخف من إصابتها لكن الالم والحزن عادل بين الإصابتين. «الندوب التي خلفتها الجروح في جسدَي أمي وأبي لم تكن ألوانها طبيعية ككل الندوب، بل كانت غريبة بألوانها والباكتيريا الموجودة فيها وهو ما يشير الى المواد الكيميائية التي دخلت الجسم».
منذ الرابع من آب 2020 لم تعد ليديا تعرف يوماً هادئاً، أوجاع مستمرة غير مألوفة تكاد تتخطى الطبيعي، ومع كل يوم تتكشف انعكاسات جديدة للإصابة: قلة توازن، صعوبة في النوم مع توقف للنفس أحياناً. السيدة التي كانت تملأ حياة عائلتها حباً وحياة تغيرت صارت إنسانة مختلفة، مقهورة لا تشعر بذاك الرضى الذي كان يرافق حياتها، ما عادت مرتاحة لا في صحتها ولا في بيتها الذي تم ترميمه بعد جهود جبارة وبات بيتاً جديداً،غريباً، مختلفاً عن الحضن الدافئ الذي عاشت فيه 57 عاماً. «يا ريت رحت بهيداك اليوم» عبارة ظلت ليديا ترددها وأمنية كانت تتمناها في قرارة نفسها لكنها صمدت وجاهدت من أجل أبنائها لتبقى حاضرة أمامهم.
«الخسارة التي مني بها أهلي كانت أكبر من أن تعوض فهما لم يفقدا جدراناً واثاثاً ومقتنيات بل فقداً بيتاً شهد كل مراحل حياتهما الزوجية وكل ما فيها من ذكريات. كانا يعودان من أسفارهما بتذكارات صغيرة يجمعانها في البيت، وكان البيت بالنسبة إلينا نحن الأبناء محطة يومية إجبارية نزوره لنستمد منه البركة والحب لحياتنا اليومية. من هنا استمددت القوة لأكافح من أجل إعادة بناء البيت. سنة ونصف أمضاها الوالدان خارج بيتهما في بيت آخر، ورغم كل الحب والدعم الذي تلقياه من الأبناء إلا أنهما بدوا ضائعين وقد فقدا كل ما اعتادا عليه من معالم. وحين عادا الى البيت بدا كل شيء غريباً تم ترقيعه بالممكن وما عاد يذكرهما بحياتهما الماضية».
رجعت ليديا الى بيتها لكن لحظات الانفجار لم تغادر ذاكرتها، حتى ستارة النافذة التي تطل على المرفأ كانت ترفض أن ترفعها، لا تريد لها أن تذكرها بلحظة مرور الصاروخين اللذين تقول إنها رأتهما بأم العين ذاك اليوم وتخشى مرور غيرهما. تجلس على سريرها تتأمل بيتها بحرقة وتتذكر...ليديا رحلت الى مكان آخر علها تجد فيه العزاء و الراحة لكنها تركت خلفها زوجاً تائهاً وأبناء لا يستطيعون أن ينسوا...
«والدي - تقول لارا- خسر بيته ومقتنياته وسيارته الجديدة التي اشتراها قبل فترة بسيطة من الانفجار، وقد أحزنه فقدانها كما احزنه ذاك الشعور بانه فقد جنى عمره. واليوم بعد رحيل أمي تجرع كأس الفقدان التام حتى الثمالة. كلنا لم نعد كما كنا فأنا لا استطيع سماع صوت سيارة إسعاف او رؤية مستشفى لشدة ما عانيناه في هذه السنوات الثلاث، لكن الأسوأ أن أحداً لم يلتفت إلى أهلي أو يعوض عليهم صحتهم وبيتهم وسيارتهم وكأنهم تركوا لمصيرهم يتدبرونه كما يقدرون. حتى اليوم لا تزال حجارة البناية المجاورة مهددة بالسقوط في اية لحظة لذا نحن كأهالٍ سنزيلها على نفقتنا الخاصة لنحمي من تبقى من كارثة جديدة. نحن نعرف حقيقة ما حصل لكننا نكاد نموت واحداً بعد الآخر قبل أن يقروا بهذه الحقيقة
أخبار ذات صلة
مقالات مختارة
بعد ثلاث سنوات... المنظومة تُعيد لبنان إلى العزلة