02-08-2023
محليات
|
المدن
بعد مرور ثلاث سنوات على وقوع أكبر جريمة في تاريخ لبنان، التّفجير الأكبر المرتبط بمادة "نيترات الأمونيوم" في تاريخ عالم، ليكون النكبة العبثيّة التّي ألمت بالجمهوريّة الميتة هذه، لا تزال العدالة والحقيقة ضالة المواطن ومطلبه البديهيّ، فيما لا يزال القضاء اللبنانيّ يقف عاجزًا عن تقديم إجابات شافيّة للمنكوبين وتحصيل العدالة للضحايا، أو حتّى الكشف المجهري عن ملابسات التّفجير الذي جعل مدينتهم أنقاضًا. وقد يكون من السّورياليّة أن العصبة الحاكمة التّي تُعرقل التحقيقات باستغلال نفوذها القضائي منذ انطلاقتها وحتى اليوم، هي نفسها التي وافقت على تعويضات شبه رمزيّة لذوي الضحايا والجرحى والمتضررين، وسهلت وصول المساعدات لهم، إلا أن اللافت والمتوقع جدًا، كونها اعتمدت هي وبعض الجمعيات النزعة العنصريّة الصفيقة نفسها في تقسيم هذه المساعدات، وحرمت منها آلاف المتضررين وذوي الضحايا والجرحى من الأجانب واللاجئين، الذين تضرروا بالقدر نفسه كاللبنانيين، فقط لأنهم من غير حملة الجنسية اللبنانيّة.
المنكوبين الأجانب
"قمت بترميم منزلي بنفسي، دفعت كل التكاليف لترميم وتعديل ما تضرّر ومعالجة جراحنا على نفقتنا الخاصة. أما المساعدات، فللأسف كانت تصل فقط لحملة الجنسيّة اللبنانيّة. كان مندوبو الجمعيات والمتطوعين يطرقون على باب شقتي. وعندما تفتح زوجتي المُحجبة الباب، يُذهلون ويولون الأدبار، وكأن لكنة زوجتي السّورية وحجابها وجنسيتها، لا تستحق المساندة كما باقي المتضررين من تفجير المرفأ". هذا باختصار ما قاله أحد المقيمين السوريين في مُحيط المرفأ، والذي قابلته "المدن". فيما تحدث أحمد المُقيم (مفضلاً عدم ذكر اسمه الحقيقي) والعامل في مجال ورش البناء عن التّمييز الذي لحقه بعد تفجير 4 آب، وحرمانه وأسرته من المساعدات الإنسانيّة المُشتملة على الحصص الغذائية والتعويضات الماليّة والترميم العمراني، فقط لكونه سورياً، وهو المُقيم منذ ما يناهز العشرين سنة، والمُتملك لشقته الكائنة على مقربة من مرفأ بيروت.
وأحمد ليس الوحيد الذي قاسى ضروب التّمييز والعنصريّة، فشريحة واسعة من متضرري الانفجار، من الجرحى والمُشردين، واجهوا صعوبة مثلاً في استكمال علاجاتهم، إن لم نقل حتّى أنهم واجهوا صعوبة في تلقي الإسعافات الأوليّة بسبب الفواتير التّي وضعتها دور الرعاية الصحيّة للأجانب في بعض المستشفيات، التّي انتهكت بصورة فادحة التعميم الصادر في 4 آب أي بعد التفجير بساعات، والذي قضى بمعالجة جميع الضحايا والجرحى على المدى الفوري واللاحق ومن كل الجنسيات على قدم المساواة. وفي حين يجنح البعض للوم الحكومة ووزارة الصحّة على هذا الواقع الذي لم يفرض على المستشفيات الالتزام الحقيقيّ بالتعاميم والقرارات الرسميّة، فيما طمعت هذه المستشفيات بالتّربح في أوّج النكبة الإنسانيّة، وبالرغم من رفع الصوت للآن هناك حالات من المتضررين السّوريين من تفجير مرفأ بيروت قد دفعوا أو يستمرون في دفع الأموال من أجل استشفائهم وعلاجاتهم.
فيما يستطرد أحمد بالقول أن هذا الواقع قد طال أقربائه وأصدقائه من الجنسيات المُختلفة التّي تضرّرت من التّفجير وجُرحت وتدمرت منازلها، قائلاً: "البعض لم يجد حتّى قبورًا لذويهم من القتلى، فيما اضطر آخرون للعودة إلى سوريا أو النزوح لمناطق مختلفة والسّكن في المخيمات، بعدما تهدمت وتضرّرت بيوتهم وجنى سنوات التّعب والشقاء لشرائها وتأثيثها والسّكن فيها بكرامة، أما التعويضات فلم يستطع الكثيرين الحصول عليها، بسبب صعوبة إكمال المستندات الرسميّة".
التعويضات المقرّرة
أصدرت السّلطات اللبنانية العديد من القوانين والمراسيم لمنح مساعدات مالية لأهالي الضحايا. ولم تلحظ بعض هذه القوانين تمييزًا بين ضحية لبنانية وأخرى أجنبية. فعلى سبيل المثال، صدرت مساعدة بقيمة 30 مليون ليرة لبنانية من الهيئة العليا للإغاثة لكل وريث فوق العشر سنوات من الضحايا، وأتاح القانون رقم 196/2020 لهم الاستفادة من التعويضات والمساعدات المقدمة لأهالي شهداء الجيش. ومن جهة أخرى، قام القانون رقم 194/2020 بتفضيل الضحايا اللبنانيين على الأجانب فيما يتعلق باستفادتهم من تقديمات صندوق الضمان الاجتماعي وتغطية وزارة الصحة. بالرغم من مراعاة معيار المساواة بين الضحايا اللبنانيين والأجانب في النصوص الأولية، مثل قرار الهيئة العليا للإغاثة والقانون 196/2020، وبالرغم من عدم التمييز بين الأجنبي واللبنانيّ في شكل النّصّ، إلا أنه تمّ ملاحظة أن عددًا قليلاً جدًا من ورثة الضحايا الأجانب تمكنوا حتى الآن من الحصول على المساعدات المقدمة.
فيما حاول التيار الوطنيّ الحرّ وعلى سيرته الدائمة استغلال الموقف للكشف عن عنصريته المبتذلة والصفيقة حين قدم النائب جورج عطا الله من كتلة لبنان القوي اقتراحًا لقانون (لم يتم إقراره بعد) يستثني منه ذوي الضحايا غير اللبنانيين من التعويضات المقررة قانونًا لجميع الضحايا. على اعتبار أنه يُفترض أن يكون جميع الضحايا الذين قُتلوا في التفجير مؤمَّنين على الحياة، وبالتالي يمكن لذويهم الاستفادة من تعويضات شركات التأمين.
هذه المسألة تحمل أهمية بالغة، ويجب أن تنظر فيها السلّطات اللبنانية بعناية لضمان عدالة توزيع المساعدات والتعويضات لجميع الضحايا بغض النظر عن جنسياتهم. يتعين على المشرّعين أن يكونوا حساسين لظروف هؤلاء الضحايا وأن يعملوا على تقديم الدعم اللازم لهم في هذه الأوقات العصيبة. هذا فيما تجدر الإشارة لكون التعويضات التّي استحصل عليها أهالي الضحايا من اللبنانيين، ليست سخاءً من قبل السّلطة بل جاءت على متن سلسلة من التظاهرات والاعتصامات واللقاءات المستمرة التّي خاضها الأهالي للاستحصال على حقّهم المادي وحقّ ذويهم بالتعويض المعنويّ والعدالة.
العنصريّة والتّفجير
تمظهرت أولى مُحاولات تهميش حقّ الأجانب واللاجئين في العدالة، بدايةً بتحييدهم شكليًّا عن لائحة المطالبات والتجمعات التّي تصبو للضغط على القضاء اللبنانيّ لاستكمال التحقيقات، فالتفجير الذي قُتل على إثره ما يربو على 200 شخص، وأُصيبَ الآلاف بجروح وآلاف مؤلفة أُخرى من المشردين، وفي خضم هذه المقتلة البشريّة الضخمة والمجزرة الحقوقيّة وربما جنبًا إلى جنب معها، هناك ضحايا ومتضررون سوريون وأجانب من فئات طبقيّة مُتعثرة، يكادون يغيبون عن المشهد الحقوقيّ والمطلبيّ بأكمله. أي أن ما يُقارب التسعين ضحية من الأجانب أغلبهم من السوريين المُقيمين واللاجئين، قتلوا، ودُمرت بيوتهم، وتفككت أُسرهم، من دون أمل في تحصيل العدالة لهم ولذويهم وتكريم حيواتهم التّي سُلبت عنوةً منهم.
وفي هذا السّياق يُشير الدكتور جاد طعمه رئيس اللجنة القانونية في المرصد الشعبي أن "الضحايا اللبنانيين والأجانب على حدٍّ سواء يطالبون بالعدالة ومحاسبة المسؤولين عن تلك الجريمة قبل الالتفات الى مسألة التعويضات على أهميتها، وطرح موضوع التعويضات ما هو إلا محاولة إلهاء للضحايا وأهاليهم لحرف أنظارهم عن المحاولات الناجحة حتى الآن للإفلات من العقاب، فالملاحق اليوم بات المحقق العدلي بدلاً من المجرمين".
ويُضيف: "وإذا ما أردنا التعليق على مسألة التعويضات، فيجب الالتفات الى جهتين، الجهة الأولى هي الدولة اللبنانية المفلسة حاليًا نتيجة الانهيار الاقتصادي، والتي يتعذر عليها تأمين أي تعويض لمواطنيها كما للأجانب، علماً أن هناك مشروع القانون الذي يناقش في أدراج مجلس النواب، يميز بين ضحية لبنانية وضحية أجنبية بما يخالف الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والتي صادق عليها لبنان. كما يخالف وثيقة دربن للعام 2001، مما يسيء لصورة لبنان أمام المجتمع الدولي ويدل على وجود انهيار أخلاقي إلى جانب الانهيار الاقتصادي. أما الجهة الثانية التي لا بد من الالتفات إليها فهي الجمعيات التي نالت تبرعات سخية من الخارج وفاحت روائح الفساد من استغلالها لدماء وأوجاع الضحايا وأهاليهم من لبنانيين وأجانب".
إذاً، ليس مستهجنًا أن تسلك العصبة الحاكمة مثل هذا المسار السّاقط أخلاقيًّا، أكان بالتّمييز بين القتيل والضحية، فقط لاعتبارات عاطفيّة وعنصريّة بحتّة، كما أنه ليس مستعبدًا أن تكون بعض الجمعيات الإنسانيّة مُدعية المبادئ المناقبية أن تستغل فائض المساعدات الدوليّة المُقدمة خدمةً لمصالحها أو تلبيةً لنزعتها التّمييزيّة. وعلى هذا الحال، يُمكن القول أن تدخلاً أمميًا خارجيًا، عاجلاً يجب أن يحصل، لا لشيء سوى لمساءلة النهاشين والقاضمين والمهملين لقضية حساسة وإنسانيّة لهذه الدرجة، بل وأيضًا لإضافة هذا النقطة السوداء على سجل لبنان الحافل.
أخبار ذات صلة
مقالات مختارة
إطلاق ساعة الصفر لاعادة اعمار المرفأ