30-07-2023
مقالات مختارة
|
القدس العربي
زياد ماجد
ت
الانتخابات المبكرة وبناء الائتلافات
في أواخر أيار/مايو الفائت، أعلن رئيس الحكومة الإسبانية الاشتراكي بدرو سانشيز حلّ البرلمان، إثر بروز معالم أزمة سياسية فاقمتها نتائج الانتخابات المحلّية (البلدية) التي أحرز فيها اليمين المتطرّف تقدّماً ملحوظاً. وخشي أكثر المراقبين من أن يكون سانشيز قد ارتكب في قراره خطأً يُتيح لتحالف اليمين مع اليمين المتطرّف الفوز وتشكيل الحكومة الجديدة.
لكن العكس حصل. فعلى الرغم من جزمِ مراكز الأبحاث الانتخابية قبل أيام من الاستحقاق بحصد لوائح «الحزب الشعبي» (اليمين التقليدي) و«فوكس» (اليمين المتطرّف) لأكثرية نيابية تمكّنهما من تأليف حكومة، فإن رهان سانشيز على تعبئة واسعة لقواعد اليسار بمختلف تشكيلاته وعلى مروحة تحالفات سياسية مع أحزاب وحركات إقليمية (باسكية وكاتالانية تحديداً) أصاب، وصار بوسعه منذ إعلان النتائج التفاوض لإعادة تشكيل حكومة يسارية – وسطية. ذلك أن «الحزب الشعبي» الذي حلّ أوّلاً حاصداً 33 في المئة من الأصوات، لا يملك سوى احتياطي اليمين المتطرّف، «فوكس»، البالغ 12 في المئة، ولا يمكنه الحصول بالتالي على أكثرية. أما الحزب الاشتراكي، فبوسعه، وقد جمع 31 في المئة من الأصوات، التحالف مع اليسار الراديكالي «سومار» (12 في المئة) ومع أحزاب أو قوى صغيرة أو إقليمية حازت على قرابة 8 في المئة من الأصوات. وهذا يمنحه أكثر من 50 في المئة بقليل تمكّنه من ترؤس الحكومة المقبلة، ولَو أن مهمّته في التشكيل وخاصة في الحكم لن تكون سهلة.
كيف نجح سانشيز إذاً، وسط سيادة التقديرات التي صبّت لصالح خصومه، وفي لحظة بدا فيها المدّ اليميني المتطرّف في أوروبا جارفاً، ليس فقط في إيطاليا والسويد حيث فاز، بل أيضاً في بلجيكا والنمسا وألمانيا وهولندا والدانمارك حيث بات قوّة أساسية في المشهد السياسي، وفي فرنسا حيث صارت مصطلحاته جزءاً من مصطلحات وسائلِ الإعلام المرئي وقسمٍ كبير من الطبقة السياسية وحيث مؤسسة الشرطة الواسعة النفوذ بأبرز نقاباتها وأكثرية عناصرها تواليه، لا بل تتخطّاه تطرّفاً؟
رهانات الاشتراكيين و«التصويت المفيد»
للإجابة عن السؤال، يفيد التذكير بداية أن ثمة خصوصية إسبانية وبرتغالية في أوروبا الغربية. فالبَلَدان هما الوحيدان في غرب القارة اللذان عاشا تحت حكم دكتاتوري يميني (وفاشي في الحالة الإسبانية) على مدى عقود طويلة سبقت الحرب العالمية الثانية ورافقتها ثم تلتها. فالبرتغال ظلّ حبيس سلطات تسلّطية كوربوراتية بين العامين 1928 و1974 بلغت أوجها خلال مرحلة سالازار (1933 – 1968). وإسبانيا عرفت الفرانكية في حقبتيها الحربية البالغة الدموية (مئات آلاف الضحايا) ثم البيروقراطية الشديدة التسلط على مدى أربعين عاماً (1936 – 1975). واليمين المتطرّف (أو ما يُماثله) هو بهذا المعنى تجربة حكم طويلة في مدريد ولشبونة، وليس مجرّد وهمٍ أو منظومة متخيّلة يعدّها سائمون من أحوال اقتصادية وسياسية راهنة وكارهون للمهاجرين واللاجئين جواباً عن أزماتهم.
والوضع في إسبانيا يختلف أيضاً عن وضع إيطاليا (حيث اندحر الفاشيون عن السلطة بعد حرب وتدمير واحتلال) لجهة اتخاذ الحركات السياسية المناطقية في البلدين مواقف متضاربة. فبينما تنحو النزعات الشوفينية المحلية في إيطاليا (في الشمال تحديداً) إلى اليمين واليمين المتطرّف وتمدّه بأصوات كثيرة، تتّخذ النزعات المشابهة في إسبانيا، في بلاد الباسك وفي كاتالانيا خصوصاً، مواقف معارضة لليمين «المركزي» ولليمين المتطرّف لعدائهما الحاد للنزعات الانفصالية أو المناطقية ولإعلائهما «قومية إسبانية» لا نقاش حول ديمومتها ومركزيّتها. وهذا يدفع أغلب الناخبين في هاتين المنطقتين للتصويت لصالح اتجاهات وطنية أو محلية قابلة للتفاوض معهم على توسيع هوامش استقلاليتهم السياسية والمالية أو خصوصياتهم الثقافية.
ولا شك أن الاشتراكيين استفادوا من الأمر المذكور، بعد أن عدّلت حكومة سانشيز قوانين وألغت أخرى لتخفيف الاحتقان الذي ساد في كاتالانيا في السنوات الأخيرة بعد الاستفتاء الانفصالي وتبعاته.
يضاف إلى ذلك أن عدداً من الناخبين الإسبان استنفروا ضد «فوكس» لأسباب لا ترتبط فقط بخطابها العنصري أو لتشدّدها «القومي»، بل أيضاً لقيمها الاجتماعية المحافظة التي تستعيد خطاباً فرانكياً حول العائلة والعمل، ولا تخفي العداء للمساواة الجندرية ولمكتسبات النساء بعد عقود من نضالاتهنّ النسوية، إضافة إلى حملاتها ضد السياسات البيئية وضد حريّات المسلك الفردي التي يتمسّك بها معظم أبناء الجيل الجديد وبناته. وهؤلاء صوّتوا تصويتاً «مفيداً» فيه من الـ»ضد» أحياناً أكثر ممّا فيه من الـ»مع».
كما أن مرونة الاشتراكيّين السياسية لجهة القدرة على التفاهم مع اليسار الراديكالي على القضايا الاجتماعية والثقافية، والتمايز عنه في القضايا الاقتصادية بما لا يُقلق جزءاً من الوسطيين، ثم التعامل مع النزعات المناطقية بتفهّم يلغي الإجراءات الصارمة ضدّها من دون التنازل عن «الوحدة الإسبانية» في نظام فدرالي، مكّنتهم من التعاون الانتخابي ودفع ناخبين كثر للتصويت لهم.
على أن المعركة السياسية لم تُحسم تماماً بعد ولَو أن هزيمة اليمين المتطرّف مهمّة وذات دلالات يُؤَسّس عليها. ليس فقط لأن الأكثرية للاشتراكيين وحلفائهم هشّة ولأن سيناريوهات الفشل في تشكيل حكومة واردة والدعوة لانتخابات جديدة بالتالي ممكنة، بل أيضاً لأن عدداً من السجالات في إسبانيا يُحدث انقسامات مجتمعية عميقة، نظراً للخصائص التي اعتمدها التحوّل الديمقراطي بعد الفرانكية طيلة ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته والسعي يومها لطيّ صفحة الماضي دون مراجعات أو محاكمات، ونظراً أيضاً لتنامي الميول الاستقلالية داخل الكيان وحاجة الحكومات المركزية إلى التفاوض والمساومة على قضايا اللغة التعليمية والجباية الضريبية وصلاحيات المجالس المحلية، وغير ذلك من ضرورات الاستقرار السياسي في دولة ملكية فدرالية.
وبما أن الانتخابات الأوروبية على الأبواب، وهي انتخابات يسعى فيها اليمين المتطرّف في كل دول الاتحاد لتسجيل أفضل نتائج ممكنة لأنها توفّر له حضوراً تشريعياً وإعلامياً وتدرّ عليه موازنات مالية أوروبية، فإن إسبانيا مقبلة على استمرار التوتّر السياسي والتعبئة في الخطاب والانقسام في الإجراءات بين حكومة مركزية يُرجّح أن تكون يسارية وسطية، ومجالس بلدية بات لليمين واليمين المتطرّف الحضور الأساسي فيها
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار