كأن قدر لبنان واللبنانيين مع الفراغ بات حتميا. حتى أن الكلام عن "فخامته" يبدأ حتى قبل نهاية العهد لأن المسألة بطبيعة الحال في يد قوى الأمر الواقع. ومع تطبيع الفراغ على موقعي الرئاستين الأولى والثالثة يبدو أن مفاعيله وصلت إلى المواقع الإدارية الأولى، من حاكمية مصرف لبنان نهاية الشهر الجاري إلى قيادة الجيش في نهاية السنة إلى رئاسة مجلس القضاء الأعلى في شباط 2024 والكلام منذ اليوم عن ملء الشواغر بالفراغات.
في سجلات العهود تم تدوين 3 حالات فراغ في موقع الرئاسة الأولى. الشغور الأول كان مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل في 22 أيلول 1988، وانتهى بانتخاب الرئيس رينيه معوض عام 1989 أي أنه دام عاما و44 يوماً.
الثاني حصل مع انتهاء الولاية الممددة للرئيس إميل لحود في 23 تشرين الثاني 2007، ودام نحو 6 أشهر، وانتهى في 25 أيار 2008، بانتخاب العماد ميشال سليمان، نتيجة اتفاق بين الزعماء السياسيين اللبنانيين عُقد في العاصمة القطرية الدوحة.
أما المرة الثالثة فقد كانت الأطول مدة في البلاد من حيث الشغور الرئاسي حيث امتدت لعامين وخمسة أشهر، بدأت بانتهاء ولاية سليمان في 25 أيار 2014، وانتهت في 31 تشرين الأول 2016 بانتخاب ميشال عون.
الكاتب والمحلل السياسي الياس الزغبي يعتبر أن مسألة الفراغ في الرئاسة الأولى وكذلك الرئاسة الثالثة ومنهما إلى بعض المواقع الأولى في الدولة ليست عملياً قديمة العهد، إنما نشأت في الواقع بعد زوال الإحتلال السوري عام 2005 .ويضيف عبر "المركزية" "هناك مرحلتان قبل هذا المفصل لم تشهدا فراغات كبرى بالشكل الحاصل اليوم :الأولى مرحلة الدولة السيدة التي تملك قرارها السيادي والشرعي، وامتدت عمليا من الإستقلال حتى العام 1988. وفي هذه المرحلة لم يشهد لبنان فراغات كبرى خصوصا في الرئاسة الأولى طالما أن رئيس الجمهورية كان قادرا على تشكيل حكومة إنتقالية كما حصل في العام 1988.
أما مرحلة الإحتلال السوري وهي الثانية فكان يأتي ملء الفراغات في الرئاسات والمواقع بقرار من دمشق إما بإشارة من رئيس النظام السوري أو بقرار يُبلغه المندوب المخابراتي السوري من عنجر أو البوريفاج.
بعد خروج جيش الإحتلال السوري نشأت حالة هجينة غريبة، يقول الزغبي وذلك بحكم تولي حزب الله عمليا القرار الداخلي كوريث لسلطة الإحتلال السوري ولمرجعيته الإيرانية. وقد نجح مرة أو أكثر في فرض ملء الفراغات وفشل مرات في هذا الأمر، ما أدى إلى فراغ في سدة الرئاسة ما بين عهدي الرئيس إميل لحود وميشال سليمان، ثم بين عهدي سليمان وميشال عون.والمرة الثالثة هي الحاصلة اليوم".
قد نكون أمام "أمّ المرات" في الفراغ الرئاسي اليوم نظرا إلى التعقيدات الداخلية والتطورات الحاصلة على الساحة الإقليمية بعد الإتفاق السعودي -الإيراني، لكن ما يجب التأكيد عليه "أن مسألة الفراغات هي مسألة طارئة على الحالة السياسية اللبنانية قياسا بالزمن أي منذ 15 عاما وتقع المسؤولية المباشرة في هذه الفراغات على القرار الإستراتيجي الذي تمسك به الحزب ليس فقط على مستوى زج لبنان في محور الممانعة وفي حروب خارجية، بل على مستوى الداخل من خلال تكرار التعطيل طالما أن انتخاب رئيس يكون تابعاً له أمر غير متاح، فيفرض حالة فراغ إلى أن يقتنص فرصة مناسبة تحقق له مخططه في السيطرة على الدولة وقرارها المستقل"..
إلى هذه العوامل يشير الزغبي إلى أخرى داعمة للفراغات " أبرزها المصالح السياسية الضيقة لبعض القوى الأخرى وهي في معظمها مرتبطة بشكل مباشر وغير مباشر بقرار حزب الله واستراتيجيته" .
هذا في"مسببات"الداخل. أما إقليميا فالعوامل تتصل بالتطورات الإقليمية خصوصا المتغير الأبرز المتمثل بالعلاقة المستجدة بين الرياض وطهران وهي ما يتخذه حزب الله ستارا كي يستمر في فرض الفراغ الرئاسي والمعاندة، علّ القوى المعنية باحتضان لبنان، وهي في هذه المرحلة اللجنة الخماسية، تعيد النظر بمواقفها. لكن الظاهر أنه بدأ يدرك أن رهانه ليس في مكانه الصحيح خصوصا بعد البيان الصادر عن اللجنة في الدوحة ومهمة لودريان التي تبدلت من فرض مقايضة الصفقة بين الرئاستين الأولى والثالثة إلى نوع من التوافق على الحوار لكن ليس حوارا على طاولة واحدة إنما تصح تسميته بحوار الطاولات"؟
وكما في محاولاته التي يراهن فيها على الفراغ في الرئاسة الأولى، كذلك في مواقع الدولة الأولى خصوصا حاكمية مصرف لبنان وقيادة الجيش. وفي السياق، يقول الزغبي" لا شك أن حزب الله بدأ يتلمس صعوبةً ما، في فرض معادلة المساومة ما بين الرئاسة الأولى والمواقع الأخرى. وربما أدى به هذا العناد في تثبيت الفراغات إلى خسارة المقايضات نفسها التي يسعى إليها في الرئاسة الأولى والحاكمية وقيادة الجيش، فيكون دفع ثمن عناده ورهانه على أن إيران خرجت منتصرة من علاقتها الجديدة مع المملكة العربية السعودية. وهذا الأمر ليس واقعياً لأن لبنان كما يظهر خرج من دائرة المساومات أو صفقات البيع والشراء بقرار واضح من الأولى وبمساندة واضحة من قطر ومصر وبموافقة من واشنطن.
أما باريس يختم، فهي تحاول أن تلتحق بأطراف "الخماسية" لئلا تسجل على نفسها إنتكاسة خطيرة بحيث لا يكون لها أي دور أو تأثير أو حضور في شرقي المتوسط.