17-06-2023
صحف
|
نداء الوطن
لا يقتصر أمر التعطيل على موضوع رئاسة الجمهورية فقط بل يتعدّاها إلى كل ما يتعلّق بأمور الدولة، من تسمية رئيس مجلس النواب إلى تسمية رئيس الحكومة والوزراء ومسؤولي الصف الأول والثاني والثالث وإلى ما يتعلق بالأمن والقضاء والتحقيق. عندما يعطي نصرالله كلمته لا يعود هناك مجال للنقاش بالنسبة إلى «الحزب». وعندما يفتقد القدرة السياسية على التعطيل لا يتردّد في اعتماد طرق العنف كما حصل في 7 أيار 2008. يتصرّف نصرالله وكأنّه الحاكم الفعلي الذي لا يمكن مناقشته، أمّا الباقي فتفاصيل لتعبئة الفراغات بما يناسب الأمر الواقع الذي يفرضه، من دون تجاوز السقف الذي يمكن أن يعتبره تخطّياً للمحظور الذي يشكّل انتقاصاً من هذه السلطة ومن هذا التفرّد.
هذه الإستراتيجية الثابتة لدى «الحزب» لم يستعملها فقط في الانتخابات الرئاسية بل في كل استحقاق آخر. في المرحلة الحالية، ومع استمرار تعطيل انعقاد جلسات مجلس النواب لفرض انتخاب مرشحه سليمان فرنجية، كانت هناك حجة إضافية وهي أنّ القوى المعارضة له أعلنت أنّها لن تتوانى عن تعطيل النصاب أيضاً لمنع انتخاب مرشّحه. ولكن بين هذا الإعلان وبين تعطيله ثمّة فوارق كثيرة.
منذ انتخابات العام 2005 و»الحزب» يعطّل الدولة. بعد 11 جلسة تعطيل منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون اعتبرت قوى المعارضة أنّ اللعبة الديمقراطية التي يعطّلها «الحزب» لا يمكن أن تكون أداة في يده. لذلك أعلنت أنّها يمكن أن تلجأ إلى هذا الخيار على سبيل المعاملة بالمثل. ولكنّ رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع كان أعلن منذ بداية السباق الرئاسي أنّه يمكن تعطيل النصاب تكتيكياً لجلسة أو جلستين، أمّا في حال ثبت أنّ الأكثرية النيابية صارت مؤيّدة لانتخاب مرشّح «الحزب» فإنّه لا يمكن الإستمرار بهذا التعطيل إلى ما لا نهاية.
هذا الإعلان كان يرتبط باحترام اللعبة الديمقراطية وبمبدأ أن تكون النظرة من الطرف الآخر مماثلة لا أن يعتمد «الحزب» مبدأ التعطيل المفتعل والمستمر من أجل أن يضغط بكل الوسائل لتجميع النواب وفرض إرادته عليهم تحت ضغط الخوف من انهيار البلد. عندها يصبح التعطيل ردّاً على هذه المحاولة وليس استراتيجية معتمدة كمبدأ في نقض الحياة السياسية والديمقراطية. ذلك أنّ اللعبة الديمقراطية تفترض أن تكون مطبقة ومقبولة من اللاعبين. وبالتالي أن يكون سقف هذه الديمقراطية وهذه الممارسة فوق الجميع.
في العام 2004 بعد إصدار مجلس الأمن الدولي القرار 1559، الذي طلب سحب الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح «الحزب» واحترام المواعيد الدستورية وانتخاب رئيس جديد للجمهورية وعدم التمديد للرئيس إميل لحود، اختار «الحزب» مع النظام السوري تحدّي القرار وفرض التمديد للحود مع أنّ أكثرية مجلس نواب 2000 كانت تابعة له ولهذا النظام. لم تكن عندهما خيارات غير لحود باعتبار أنّه مُجرّب ولا مجال للقبول بغيره حتى لو كان سليمان فرنجية. وتلك كانت الفرصة الأكثر توفّراً وقابلة للتنفيذ لإيصاله إلى قصر بعبدا ولكن «الحزب» والنظام السوري فضّلاً لحود عليه.
لتعطيل الديمقراطية بعد خيار التمديد بدأ اللجوء إلى الإغتيالات. زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 انعكس سلباً على «الحزب» والنظام السوري. ولذلك خرج الجيش السوري من لبنان وفازت قوى 14 آذار بأكثرية مجلس نواب 2005. وكان على «الحزب» الدخول في مواجهة صعبة وفي مرحلة انتظار لقلب النتائج السياسية بالقوة والعنف، ولذلك قبِل بتشكيل حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي اعتبر أنّه حصل فيها مع لحود على الثلث المعطل. ولكنّ النتيجة لم تكن كذلك، بسبب افتراق خيارات عدد من الوزراء عن حساباته وحسابات لحود. تلك التطورات جعلت مصالحه تلتقي مع مصالح العماد ميشال عون فوقّعا تفاهم 6 شباط 2006 في كنيسة مار مخايل من أجل استعادة التوازن بينه وبين قوى 14 آذار.
اعتبر «الحزب» أنّ حرب تموز 2006، التي افتعلها ولم يكن يتوقّع نتائجها المدمرة، ستكون مناسبة لكي ينقضّ على السلطة القائمة ويحمي نفسه بقوة السلاح. بالإتفاق مع عون حاصر الحكومة واتّهم قوى 14 آذار بالغدر والخيانة والتآمر عليه. واستمرّت عمليات الإغتيال. ولكن الحكومة لم تسقط على رغم استقالة الوزراء الشيعة منها ووزير وحيد محسوب على لحود. بقوة الشارع والسلاح منع انتخاب رئيس خلف للحود، وأقفل مجلس النواب وكانت تجربة الفراغ الأولى بعد 25 تشرين الثاني 2007.
لم يكن وقتها لدى «الحزب» مرشح محدّد ولم يكن أمينه العام قد أعلن أنّ العماد عون هو مرشّحه الوحيد. فشلت قوى 14 آذار في فرض استقالة لحود وفي انتخاب رئيس قبل انتهاء ولايته، وفشل «الحزب» مع حليفيه، رئيس مجلس النواب نبيه بري والعماد عون، في فرض رئيس. ولكن الفراغ لم يكن في مصلحته لأنّ الحكومة لم تكن تابعة له، لذلك عمل على إسقاطها.
منذ ذلك التاريخ جعل قصر بعبدا والسراي معاً هدفين له. وعندما فشلت عملية حصار السراي حصلت عملية 7 ايار 2008 العسكرية التي كانت انقلاباً مسلحاً فرض تحت ضغط السلاح «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى رئاسة الجمهورية، وأعاد تشكيل حكومة جديدة برئاسة السنيورة نفسه، ولكن بثلث ضامن معلن وأكيد بعد دخول «التيار الوطني الحر» إليها. كان الرهان على أنّ الإنقلاب العسكري سيؤدّي إلى انقلاب سياسي من خلال السيطرة على أكثرية مجلس النواب في انتخابات العام 2009، ولكن نتائج هذه الإنتخابات جاءت معاكسة لتوقعات نصرالله وعون وبقيت الأكثرية مع قوى 14 آذار.
تلك الإنتخابات حملت الرئيس سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة ولكن لعبة التعطيل لم تكن قد انتهت. فنفذ «الحزب» وبرّي و»التيار» انقلاباً عليها، وعلى ما التزم به في اتفاق الدوحة، في 12 كانون الثاني 2011 بعد التهديد بالعودة إلى السلاح كوسيلة للتغيير وإسقاط المؤسسات الدستورية. بعد ذلك لجأ «الحزب» إلى السيطرة على الحكم مباشرة من خلال الحكومة التي شكّلها برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي. ولكن حتى تلك التجربة انتهت إلى فشل ذريع بعد عامين، فاستقال ميقاتي، بينما كان «الحزب» قد انخرط في الحرب السورية وأغرق لبنان في نتائجها المدمّرة.
على رغم قبوله بحكومة الرئيس تمام سلام إلا أنّ «الحزب» نجح في فرض تعطيل انتخابات الرئاسة بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان متمسّكاً بمرشّح واحد لا منافس له هو العماد ميشال عون، الذي كان شريكاً في التعطيل على مدى عامين ونصف. صحيح أنّ الرئيس بري كان يدعم ترشيح سليمان فرنجية ويرفض انتخاب عون، ولكنه مع فرنجية رضخا لإرادة «الحزب»، وشاركا في فرض التعطيل الذي لم ينته إلا بعد اتفاق معراب ودعم «القوات اللبنانية» لترشيح عون وانضمام رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري لهذا الخيار ودخوله التسوية الرئاسية.
ثمة من يعتبر أنّ «حزب الله» وقع في تجربة «الكلمة» التي أعطاها السيد حسن نصرالله للعماد عون. وأنّ «الحزب» كان يفضّل استمرار الفراغ لا وصول عون الذي عرف كيف يتعامل معه رئيساً «للتيار الوطني الحر» ولا يعرف كيف سيكون التعاطي معه رئيسا للجمهورية. لذلك عمل على محاصرة العهد. بعد انتهاء ولايته «اكتشف» عون أنّ «الحزب» لم يكن صادقاً معه عندما رفض أن يخلفه جبران باسيل ورشّح سليمان فرنجية مرشحاً وحيداً لا يمكن أن ينافسه أحد.
انتقل «الحزب» من نظرية دعم المرشح الأقوى عند المسيحيين إلى دعم المرشح الأضعف، ليس لسبب إلا لأنّه يعتبر أنّه يشكّل ضمانة له في قصر بعبدا. مع أنّه لم يكن قادراً على أن يأتمنه على هذه المهمة لا في العام 2004 ولا في العام 2008 ولا في العام 2016. خيار فرنجية منذ تبدّل التوازنات في مجلس نواب 15 أيار 2022، يعكس ضعفاً في موقف «الحزب» الذي عاد إلى الخيار الذي طرحه الرئيس نبيه بري قبل ستة أعوام. مشكلته هذه المرّة أنّه لا يستطيع فرضه بالقوة، لا في الشارع ولا في السياسة. خياره الآخر الإنتظار في الفراغ حتى لو أدّى إلى مزيد من الإنهيار، معتبراً أنّ الآخرين سيرضخون لهذا الخيار. لا يستطيع أن يتقدّم خطوة إلى الأمام ولا يمكنه أن يتراجع خطوة إلى الوراء لأنّ المسألة تتعلق بـ»الكلمة» التي أعطاها نصرالله لفرنجية.
وهو في كل استراتيجيته الرئاسية يتجاوز ما يطبّق في إيران في مسألة الترشيحات السياسية والرئاسية التي تحتاج دائما إلى موافقة مسبقة من مصلحة تشخيص النظام. هناك يمكن أن يكون أكثر من مرشح من خط الثورة على طريقة التنافس بين متشابهين. حتى هذا الخيار أسقطه «الحزب» عندما حصر المنافسة بين فرنجية وفرنجية. ولكن هذه المرة تبدو اللعبة أصعب عليه لأنه لا يملك أوراق اللعبة التي بدأت تفلت من يده. صحيح أنّه يمنع انتخاب رئيس جديد ولكنه يلعب ورقة خاسرة سلفاً.
أخبار ذات صلة
مقالات مختارة
عون: حذّرتُ حزب الله وخائف عليه
أبرز الأخبار