20-05-2023
مقالات مختارة
|
درج Daraj
علي نور الدين
علي نور الدين
من يتابع عمل الصحناوي، يعرف جيّداً ولعه بلعب أدوار تتخطّى دوره كمالك لمصرف “سوسيتيه جنرال”، وخصوصاً على مستوى التأثير في القرار السياسي والرأي العام، عبر تمويل برامج إعلاميّة وحملات انتخابيّة، وتشكيل لوبي منظّم يعمل لحسابه داخل المجلس النيابي، وصولاً إلى تمويل مجموعات ذات طابع أمني محلّي.
تبدأ القصّة بمقال “استقصائي”، أو هذا ما تعتقده كاتبة المقال، حول مؤامرة مزعومة ينظّمها رجل الأعمال الملياردير الأميركي جورج سوروس. مؤسسته، “أوبن سوسيتي”، تتولّى في لبنان مهمّة تمويل شبكة من المنظمات الإعلاميّة ومجموعات الضغط والمؤسسات الأكاديميّة والبحثيّة وجمعيّات المجتمع المدني، لابتكار “ثورة مضادّة”، على يد أنصار “النظام القديم”، بهدف “إفشال الثورات التي أطاحت بهم”، هكذا يقول المقال “الاستقصائي” الذي نشره موقع “ايسي بيروت”.
مزاعم سطحيّة
سيبدو الأمر طريفاً في البداية، لأنّ كاتبة المقال ومن خلفها المنصة الناشرة، تستورد نظريّات المؤامرة من اليمين المتطرّف الغربي، حول الثورات المضادّة، وتفترض أنّ هناك ثورة لبنانيّة ناجحة أطاحت بالنظام اللبناني القديم، وأن رموز النظام السابقين يحتاجون إلى التآمر، عبر ثورة سوروس المضادّة، للعودة إلى الحكم.
ستبدو الأمور أكثر طرافة، حين يستذكر المرء مقالات جريدة “الأخبار” حول الموضوع نفسه، والتي وصلت للاستنتاج نفسه. في مكانٍ ما، تتلاقى نظريّات أقصى اليمين الشعبوي، الذي يأخذ طابع “يمين المصرف” في لبنان، مع يسار الممانعة. ثمّة من يسمّي هذا الانسجام، زواج المافيا والمليشيا.
بعيداً من التوصيفات، لا يحتاج المرء إلى كثير من البحث ليدرك سطحيّة المقال ومزاعمه. جزء من المؤسسات المذكورة كجزء من الشبكة “الانقلابيّة”، لم تكن يوماً على قائمة المستفيدين من تمويل “سوروس”، ومنها منظمة “كلنا إرادة” مثلاً، التي تقتصر مصادر تمويلها على أعضائها، ومنها مجموعة “لادي” التي يقتصر عملها على مراقبة الانتخابات وضمان ديمقراطيّتها. المنظمتان أعلنتا أنهما لا تتلقيان مالاً من مؤسسة “أوبن سوسايتي” لكن المنصة ناشرة المقال لم تجد حاجة إلى تصحيح معلوماتها أو نشر الرد كما تفترضه أبجديات الصحافة.
بالنسبة إلى البعض الآخر من المؤسسات المذكورة، “أوبن سوسيتي” هي واحدة من عشرات برامج التمويل الدوليّة، التي تقدّم الدعم العلني والمعروف، فيما تصرّح هذه المؤسسات عن هذا التمويل بشكل شفّاف على مواقعها الإلكترونيّة. فعلى أي أساس قرّرت الصحافيّة ربط هذه المؤسسات بالمؤامرة المزعومة على أساس “أوبن سوسيتي” مثلاً، وليس غيرها من برامج التمويل، التي تموّل بعض هذه المؤسسات وغيرها؟
ولماذا اختارت هذه الجمعيّات والمؤسسات بالتحديد، وليس غيرها من منظمات المجتمع المدني ومنصّات الإعلام، التي تستفيد من “أوبن سوسايتي” وبرامج التمويل الأخرى؟ ولماذا تصرّح كل هذه المؤسسات عن مصادر تمويلها، إذا كانت تعمل فعلاً وفق مؤامرة أو ثورة مضادة مزعومة؟
حملة منظّمة
حسناً… بعد ساعات، يظهر أنّ وراء الأكمة ما وراءها، وأن المسألة أبعد من تحقيق صحافي “استقصائي”. برغم تلقّي منصّة “Ici Beyrouth”- التي نشرت المقال في البداية- التوضيحات، ونفي بعض المؤسسات تعاملها مع “أوبن سوسيتي” أصلاً، تثابر المجموعة الإعلاميّة نفسها على الحملة، وبالاستناد إلى المزاعم نفسها.
يُترجم المقال على المنصّتين الشقيقتين العربيّة والإنكليزيّة، “هنا لبنان” و”This is Beirut”، ثم يتحوّل المقال إلى فيديو، ثم تُضخ كميّة من الأموال لترويج الفيديو على جميع منصّات التواصل الاجتماعي Sponsorship. ثم تتحرّك الجيوش الإلكترونيّة، وبشعارات متشابهة ومنظمّة، مطالبةً بتحرّك “الأمن القومي”، لحماية البلاد من هذه المؤامرة الخارجيّة المزعومة! كل ذلك، والصحافيّة تتسلّح بعبارة “لديّ مصادري”، لتبرير المعلومات الواردة في المقال.
هي حملة سياسيّة منظّمة إذاً، وليست مقالاً صحافياً. وإذا كان من حق الإعلام أن يكتب ويحلّل، ومن حق المتضرّر أن يرد ويوضّح، فمن حقّنا كمتابعين أن نسأل: ما الذي يجمع بين مؤسسات الشبكة “الانقلابيّة” المزعومة، حتّى تستهدفها هذه المجموعة الإعلاميّة؟
ما الذي يجمع بين “درج” و”ميغافون” و”كلنا إرادة” و”مصدر عام” و”الأجندة القانونيّة”، وغيرها من المؤسسات التي تختلف توجّهاتها وسياساتها التحريريّة وأدوارها، والتي شملتها هذه المجموعة الإعلاميّة بمزاعمها وافتراءاتها؟ مع الإشارة إلى أنّ الصحافيّة تعمّدت الزج ببعض هذه المؤسسات في مقالها، و”الخارطة التمويليّة” التوضيحيّة، برغم علمها بأنّ هذه المؤسسات لا علاقة لها بهذا التمويل، ما يوحي بأنّ المطلوب هو جمع كل هذه المؤسسات في إطار واحد يسهل شيطنته.
ببساطة، ما يجمع كل هذه المؤسسات والمنظمات، التي وردت أسماؤها في المقال، هو تبنّيها سياسات وسرديّات مناوئة، أو غير منسجمة، مع السرديّات التي يتبنّاها اللوبي المصرفي في لبنان.
بإمكان المراقب أن يدرك هذه الحقيقة بمجرّد قراءة مقالات ومتابعات المنصّات الإعلاميّة المذكورة في التقارير الصحافيّة، ومتابعات “الأجندة القانونيّة” للملفّات التشريعيّة في المجلس النيابي، وأوراق السياسات العامّة التي تقدّمها منظمة “كلنا إدارة”. القاسم المشترك هو كيفيّة مقاربة الملفّات التي تمس بالمسائل الماليّة والمصرفيّة، فقط لا غير. هنا، تبدأ خيوط اللعبة بالظهور شيئاً فشيئاً.
هنا الصحناوي
فعلى المقلب الآخر، ما يجمع بين المنصّات الإعلاميّة الثلاث، التي نشرت المقال، ودفعت أموالاً طائلة لنشره، وترويجه بفيديو توضيحي، هو أنّها تمثّل المجموعة الإعلاميّة المموّلة من المصرفي ورجل الأعمال أنطون الصحناوي.
ومن يتابع عمل الصحناوي، يعرف جيّداً ولعه بلعب أدوار تتخطّى دوره كمالك لمصرف “سوسيتيه جنرال”، وخصوصاً على مستوى التأثير في القرار السياسي والرأي العام، عبر تمويل برامج إعلاميّة وحملات انتخابيّة، وتشكيل لوبي منظّم يعمل لحسابه داخل المجلس النيابي، وصولاً إلى تمويل مجموعات ذات طابع أمني محلّي.
الدخول إلى أخبار المنصّات الإعلاميّة الثلاث، المموّلة من الصحناوي، يعطينا فكرة عن الدور الذي تلعبه على هذا المستوى. فتغطية هذه المؤسسات لخبر مذكّرة التوقيف الفرنسيّة، الصادرة بحق حاكم مصرف لبنان منذ أيّام، اقتصر على نقل بيان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة نفسه، وأخذ رأي الوكيل القانوني الفرنسي للحاكم، ووضع “خبر” يقول إنّ هدف مذكرة التوقيف هو اختلاق ضجّة إعلاميّة فقط، بما يقلل من شأن المذكرة بانتظار صدور الادعاء الرسمي. واعتبار مذكرة التوقيف، ونشرة الإنتربول الحمراء، مجرّد ضجّة إعلاميّة، يعطينا فكرة واضحة عن مستوى المهنيّة الإعلاميّة لهذه المنصّات.
هل يحتاج المرء إلى كثير من التحليل ليفهم سبب هذا التوجّه في تغطية أخبار الحاكم؟ المسألة بسيطة، إذا تذكرنا أن مصرف الصحناوي استفاد من 951 مليون دولار من قروض مصرف لبنان، التي مُنحت للمصارف في بداية الأزمة، والتي يشتبه القضاء اللبناني باستعمالها لتهريب أموال المصارف لمصلحة حلقة ضيّقة من المحظيين.
وستكون المسألة أوضح أيضاً، إذا تذكرنا أن مموّل المنصّات نفسه مدّعى عليه بجرم تبييض الأموال، بعدما امتنع عن تقديم كشوفات الحساب التي طلبتها النيابة العامّة الاستئنافيّة، لتتبع مصير هذه القروض، فهل كانت المنصّات الثلاث تسأل عن شبكات التمويل؟ فلتقدّم أجوبتها هنا!
وللبحث عن العلاقة الحميمة، التي لطالما بُنيت على تقاطع المصالح الماليّة، بين الحاكم ومموّل المنصّات الثلاث، تكفي العودة إلى مرحلة الهندسات الماليّة، التي شهدت تفاوتاً كبيراً بين قيمة الأرباح التي استفاد منها مساهمو “سوسيتيه جنرال”، إلى جانب مصرفي “عودة” و”ميد”، وتلك التي استفادت منها سائر المصارف اللبنانيّة. مع الإشارة إلى أنّ الصحناوي كان، إلى جانب بنك “عودة”، أوّل من فاتح حاكم مصرف لبنان بضرورة تعميم نموذج الهندسات الماليّة على جميع المصارف، بعدما حصر الحاكم في البداية هذا النموذج ببنك “ميد” وحده.
على حساب المودعين
في خلاصة الأمر، نحن أمام مصرفي شارك بشراهة بالنموذج الاحتيالي، أي “مخطط البونزي”، كما يصفه الأمين العام للأمم المتحدة وتقارير البنك الدولي، حاصداً لجيبه الخاص، وعلى حساب المودعين، أرباح النموذج السخيّة. ونحن أمام مصرفي يمتنع اليوم عن سداد التزاماته للمودعين في مصرفه.
وبدل أن يخضع هذا المصرفي لمندرجات القانون، التي تفرض ملاحقة أمواله الخاصّة، لمحاسبته على ارتكابات المراحل السابقة، يموّل هذا المصرفي- من مكاسب “البونزي سكيم”- حملات إعلاميّة تستهدف شيطنة معارضيه، وكل من يقدّم سرديّات مناوئة للسرديّة التي يقدمها اللوبي المصرفي في لبنان. في مكانٍ ما، يكرّس هذا المشهد ما شهده اللبنانيون في ملف انفجار المرفأ، على مستوى تثبيت مبدأ “الإفلات من العقاب”. هل ذكرنا سابقاً المافيا والميليشيا؟ هنا تتقاطع المافيا والميليشيا.
ما تفعله المنصّات الثلاث، تتمّة لمغامرات الصحناوي الشهيرة، التي تشمل اليوم المساهمة في تحريك اللوبي النيابي المصرفي، الذي يصر بعد أكثر من ثلاث سنوات على الانهيار على الإطاحة بجميع الحلول التي تتعارض مع مصالح النخبة المصرفيّة، التي ينتمي إليها. وامتلاك لوبي بهذه القوّة، يحتاج قبل كل شيء إلى البذخ في دعم الحملات الانتخابيّة، في الشمال وبيروت والجبل والبقاع، وبأموال كان يفترض أن يستعيدها المودعون. وعند البذخ على الحملات الانتخابيّة، لا يميّز الصحناوي في صفقاته ما بين ممانع وسيادي، طالما أن المعيار هو التوجّه العام في الملفّات الماليّة. هو زواج المافيا والميليشيا، مرّة أخرى.
أخبار ذات صلة