تصدر الدراسات والأبحاث لتسليط الضوء على الأزمات والمشاكل، وتدق ناقوس الخطر بهدف التغيير ونشر الوعي. إلا أن ما نتعامل معه في لبنان مختلف تماماً. إذ تكشف بعض الدراسات عن واقع سلامة الغذاء المخيف، وتنتهي النتائج بحدوث ردة فعل استهجان فورية قبل أن نستكمل حياتنا وكأن شيئاً لم يكن. فلا المسؤولون يحركون ساكناً لتغيير هذا الواقع المأساوي، ولا المواطنون يحرصون على رفع الصوت والمطالبة بالمحاسبة أو أقله تغيير نمط حياتهم وطريقة استهلاكهم بعض الأطعمة. والنتيجة؟ مواصلة انتشار ال#جراثيم في طعامنا، والأيام المقبلة ستكشف المخاطر الصحية لما نحن مقبلون عليه.
للأسف نواصل رفع الصوت من دون أن نلقى آذاناً صاغية، نطلق التحذير فنشهد على فورة سرعان ما تنطفئ وينتهي معها كل شيء. ولكن ماذا بعد كل هذا الغليان؟ من يراقب ويحاسب؟
ربما ما سنعرضه اليوم سيعكس حقيقة الأزمة المتجذرة في بلد تغيب عنه الرقابة المستدامة والفحوص المخبرية التي تراقب جودة المنتج وسلامته. يوضح البروفيسور عصمت قاسم العامل في مركز سلامة الغذاء في جامعة جورجيا (الولايات المتحدة) أنه "في دراسة سابقة أجريت في الجامعة الأميركية – كلية الزراعة والعلوم الغذائية تضمّنت تحليل 11650 عيّنة طعام بين العامين 2015-2017 أي خلال إطلاق حملة سلامة الغذاء في عهد الوزير السابق وائل أبو فاعور، أظهرت النتائج أن 28 في المئة من أصل 12 ألف عينة جاءت #غير مطابقة جرثومياً.
وتناول البحث كل الأصناف، ولكن اللحوم والدجاج والألبان والأجبان كانت أكثر الأصناف تلوثاً. وعند النظر في الصنف الثالث لأهميته (يؤكل دون طبخ) وجدنا جراثيم خطيرة مثل السالمونيلا والليستيريا. ونتيجة ذلك، قررنا التركيز أكثر على صنف واحد من الأجبان وتحليله، وتم اختيار جبنة العكاوي لأنها أكثر شعبية واستهلاكاً.
وبسبب استحالة الحصول على عينات من كل لبنان، كان التركيز على منطقة بيروت لأخذ عينات من جبنة العكاوي (وهي منطقة يجب أن تكون فيها المواد الغذائية أنظف حسب التجارب السابقة). ونجح الفريق في أخذ 50 عينة من جبنة العكاوي لمعظم الماركات التي توزع في البلد.
واستند البحث إلى مقاييس وضعتها مؤسسة "ليبنور"، لفحصها بالمختبر بغية البحث عن البكتيريا التي تحدد سلامة ومدى مطابقتها جرثومياً. ومن الأمور الأساسية التي ركز عليها البحث، أعداد بكتيريا الإشريكية القولونية (E-Coli) والتي تعدّ مؤشراً للتلوث البرازي، والجرثومة العنقودية الذهبية (ستاف أوريوس) وهي تستخدم كدليل على النظافة.
وفي النتائج التي خلص إليها البحث بعد تحليل العينات، يشير قاسم إلى أن "80 في المئة من عينات جبنة العكاوي غير مطابقة جرثومياً لبكتيريا الإشريكية القولونية، و32 في المئة من العينات غير مطابقة لجرثومة العنقودية الذهبية. وتعتبر هذه النسب عالية جداً وغير مقبولة لاسيما في الجبنة، لأننا غالباً ما نتناولها من دون طهي. والمستغرب أن هذه النتائج جاءت في منطقة بيروت التي تعتبر اقتصادياً أفضل من مناطق أخرى تعتبر أكثر فقراً وسوءاً".
تظهر هذه الصورة أرقام البكتيريا الموجودة في الجبنة والتي تتخطى الحد المسموح به.
لم يتوقف البحث عند هذه النتائج، بل عمل الفريق البحثي على دراسة هذه البكتيريا لمعرفة خصائصها ومدى مقاومتها للمضادات الحيوية. وأظهر البحث أرقاماً عالية، حيث تبين أنه من أصل 118جرثومة تم فحصها، وجدنا أن 75 في المئة من البتكيريا مصنفة كمقاومة للمضادات الحيوية المتعددة. على سبيل المثال يوجد مجموعة من المضادات الحيوية التي تعتبر مهمة جداً لمعالجة الأمراض في المستشفيات، واكتشفنا أن 56 في المئة من بكتيريا الإشريكية القولونية لديها مقاومة لهذه المجموعة من المضادات الحيوية.
ماذا يعني ذلك؟
يشدد قاسم على أن هذه النتائج هي دليل على فرضيتين:
- استخدام المضادات الحيوية بكثرة في المزارع، وهناك بعض الدراسات والإحصاءات التي تشير إلى هذا الموضوع. وبالتالي تنتقل من البقر والحليب إلى الألبان والأجبان ومن ثم إلى البشر.
- حدوث تلوث خلال التصنيع بسبب غياب النظافة، أو تلوث ناتج من البشر، أو ما بعد مرحلة التصنيع والتي تتفاقم نتيجة غياب المواد الأولية الجيدة بسبب الاقتصاد، انقطاع الكهرباء وغياب ضوابط النظافة (مواد التعقيم – أدوات النظافة...).
ولكن ما مدى خطورة ذلك؟ وفق قاسم أن واحداً من أخطر الأمور التي يمكن أن نجدها في هذه الأطعمة، إضافة إلى السالمونيلا، هي بكتيريا الليستيريا التي تُشكّل خطراً على بعض الفئات ومنها الحوامل حيث يؤدي إلى إسقاط الجنين، كما قد تُسبب الموت في بعض الحالات.
لذلك لا يمكن غض النظر عن أهمية هذا الموضوع خصوصاً أننا مجتمع مستهلك لهذه الأطعمة، ومخاطر تناولها في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة (سوء تخزين- انقطاع التيار الكهربائي...) يؤدي إلى تكاثر البكيتريا وبالتالي إلى حدوث مضاعفات صحية عند الفئات الأكثر ضعفاً مثل الأطفال والحوامل وكبار السن والأشخاص الذين يعانون من ضعف مناعي...
وفي ظل غياب التمويل الكافي لتوظيف عاملين لمتابعة سلامة الغذاء، وغياب المختبرات المجهزة لإجراء الفحوص على الأطعمة ومراقبتها، ومحدودية الموظفين العاملين في هذا القطاع، نحن أمام تفاقم جديّ للمشكلة، لاسيما أن التلوث (المياه- المزروعات...) يؤثر على كل شيء. ويوضح قاسم أننا "نتحدث عن بعض الجراثيم مثل الليتسيربا والسالمونيلا التي قد تُسبب حالة وفاة عند الفئات الأكثر عرضة للمرض (كالأطفال دون الخمس سنوات - النساء الحوامل - كبار السن أو الأشخاص الذين يعانون من أمراض مناعية)، في حالة تفاقم المرض خصوصاً إذا كنا نتحدث عن جرثومة مقاومة للمضادات الحيوية.
كذلك قد تُسبب بعض البكتيريا والجراثيم عوارض صحية أخرى مثل الإسهال، الدوخة، الحرارة، وقد تُسبب في بعض الحالات فشلاً كلوياً، أو مشاكل في الدماغ، اضطرابات في المعدة ومشاكل في النمو عند الأطفال وتسمماً في الدم.
وبما أن جبنة العكاوي غالباً ما يتم تناولها من دون طهي، فهذا يطرح جدياً مدى خطورة ذلك والمشاكل الخطيرة المتعلقة بسلامة الغذاء، لاسيما أن بعض الجراثيم أظهرت أنها مقاومة للمضادات الحيوية، ما يعني أننا بحاجة إلى تدخل سريع وجديّ لمراقبة الطعمة بشكل دوري عبر فحصها والتوعوية حول الإجراءات اللازمة للحفاظ على سلامة المنتج من التصنيع وصولاً إلى حفظها عند المستهلك.
وفي الختام، ينصح قاسم بتجنب تناول الأطعمة التي لا يمكن طهيها لتفادي خطر التسمم، بمعنى آخر على الناس تجنّب الأطعمة التي تكون معرّضة أكثر من غيرها للتلوث الجرثوميّ، خصوصاً في ظلّ التقنين الكهربائيّ. لذلك ينصح بعدم تناول الأجبان نيئة، ويفضّل طهيها للتخلّص من نسبة الفيروسات والبكتيريا التي تموت على الحرارة العالية.