11-01-2023
محليات
سيادة المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، تحية من عمق وقفتكم "المقاصدية" التي اؤتمنتم خلالها على "استشراف المرحلة المقبلة" لتطمين القلقين، وبخاصة الجيل الصاعد، على مصير الوطن. وبعد، أجاب جبران خليل جبران عند سؤاله عن الموت: "إن أردتم أن تعرفوا أسرار الموت، فابحثوا عنها في قلب الحياة... لأن َّ الحياة والموت واحد، كما أن النَّهر والبحر واحد أيضا." بهذه الكلمات، وبصفتي مؤلف كتاب الجمهورية الخامسة: الحل للمعضلة اللبنانية، أقدّم لرسالتي المفتوحة إليكم التي أحمِّلها أيضا كل التقدير للجهود التي قدمتموها ولا زلتم تقدمونها، على مرّ السنين، في خدمة لبنان وطنا ومواطنا وإنسانا، وذلك بحكم ما خصتكم به قوانين الأمن العام اللبناني، وهي، كما ذكرتم: "الأمن كأمن، والأمن السياسي، والأمن الاقتصادي والاجتماعي وكل الملفات التي تتعاطون بها." ولكني أحمّلها بشكل خاص التقدير المضاف لما خصّكم به الله من كياسة بالأخلاق، وحنكة وحكمة باتخاذ الخطوات التي تؤسّس للحلول وتدفع بها إلى خواتيمها السعيدة. وبالتالي أرفع التهاني لجمعية المقاصد التي تعرّفت عليها أكثر من خلال وصفكم لها بقولكم: "هي عنوان المواعظ العملية في التعاليم الروحية والمفاهيم الوطنية، وضربت اروع الامثال في التسامح والحرية والمحبة،" وأؤكد على قولكم بأن "الخطر، كل الخطر، هو في ان نضيّع الحرية باسم الحرية (المزيفة حكما)،" وبأن "شجرة الحريّة لا تنمو بما تروى من دم يسفكه الطغاة، ولا تنقذها الحروب ولا القوانين، بل ينقذها الاخاء والمحبة التي تنمو بالفهم والتفهيم والتفاهُم" (وهذه الثلاثية اشتهرت بها الدبلوماسية الصائب – سلامية)، فينتج عنها، كما أردفتم: "التفهُّم وقبول الآخر." وهذا الكلام بالضبط هو ما يؤسس لدبلوماسية ناجحة تصل بالمتخاصمين إلى حلول سليمة ثابتة وطويلة الأمد. وبالحديث عن الدبلوماسية، لا ريب أنكم أثبتم أنكم أسيادها، وليت حكامنا تعلموا من هذه السنوات الـعجاف، وبخاصة بعد تفجير مرفأ بيروت، بأن "لعبة الدول" تدار بالدبلوماسية، إلى حد 90% من حجمها، حتى لا يبقى للحروب المدمّرة سوى القليل، القليل، من الحظوظ. وهذا المبدأ ينطبق أيضا على سياسات الدول الداخلية وبخاصة على لبنان. وكم من محاولات دبلوماسية تمت فيه، وبظروف أفضل بكثير من اليوم، بخاصة لجنة الأخضر الابراهيمي، ولكن ما قوبلت به، وللأسف، هو تضليلها بالكيدية الحقودة من قبل أمراء الحرب آنذاك، لتفهيمها، ومعها العالم، بأن السلام والتفاهم غير مرغوب بهما في لبنان... لست أنا فقط من يرى أنكم إثر تقاعدكم من خدمة الأمن العام ستستمرون بالدور الدبلوماسي هذا لشدة الحاجة إليه، ولكني أتمنى لكم، واستنادا لرؤية "الجمهورية الخامسة" للوطن العتيد، لا بأن تبوأوا مركز وزير الخارجية فقط، أو رئاسة مجلس النواب، بل مركز رئاسة الجمهورية اللبنانية من خلال نظام حزبي متطور وقانون انتخاب نسبي سليم يَعتمد اللبنانيين كافة، وعلى وسع العالم، دائرة واحدة، ولا يُجنى عليه بدوائر تناقض نسبيته. نعم، حضرة القائد، ما من أحد إلا ويتذكر كم من دبلوماسية صُرفت لإيجاد حلول لأزمات شعب سياسته قائمة على قاعدة "بيي أقوى من بيَّك ... يا راسي يا راسك وانكيني تإنكيك" وأخرها في قضية ترسيم الحدود الجنوبية التي لم تخلُ من دور لكم فيها. صحَّ قولكم بأن أزمة لبنان اليوم هي بالعمق أزمة نوايا صادقة، أزمة روح دبلوماسي للتعاطي مع إيجاد الحل وليست سياسية. فالسياسة قد انتهت إلى أبواب موصدة، وقلاع مقفلة بتحصينات "كاميكازية"، والكل يهدد بالمطالبة برأس الآخر ليرفع عن نفسه مسؤولية خراب لبنان وتعريضه للزوال. وهل من المعقول ان يُسلِّم أحد الطواغيت رأسه لآخر من دون ضمانات بعدم قطع رأسه؟ أليس لهذا السبب فَهِم الدبلوماسي المعتق، الرئيس بري، مكمن العقدة، ودعا إلى طاولة حوار إعدادا لانتخاب رئيس للجمهورية يحمي الجميع، ولو على حساب الشعب المطاطي القدرة على الاحتمال ليستُرَ الشعب، مخنَّعا باسم الدين والطائفة، على من سلخوه باسم "المال"؟ أوَلا يحق لنا التقدير بأن السلة المتكاملة المقصودة لانتخاب رئيس جمهورية ورئيس حكومة، والبيان الوزاري، وتوزيع الوزراء فيها، التي يطالب بها البعض للسماح بانتخاب رئيس للجمهورية، تشترط إلغاء التحقيق الجنائي الباحث عن الجرائم المالية للاقتصاص من مرتكبيها، وإلغاء مطلبَي إلغاء سرية المصارف ورفع الحصانة عن النواب والوزراء وحتى عن رؤساء الجمهورية؟ وقد تصل المطالبة باسم "السلة المتكاملة" لعدم التفكير بفصل السلطة القضائية عن السلطتين الأخريين، عملا بأبسط قواعد الجمهوريات، لتامين ما قد اعتُمد في اتفاق الطائف من "عفوٍ عام" على كل ما سبق من جرائم مالية خلال اثنين وثلاثين عاما؟ نعم سيادة اللواء، ما أحوج لبنان اليوم إلى دبلوماسي مثلكم حاملا، بيدٍ، "عصا" القانون وما يمنحه من سطوة للحفاظ على "الأمن كأمن، والأمن السياسي، والأمن الاقتصادي والاجتماعي إلخ"، ولا غروه إن أضفنا أمن استمرار كينونة الوطن اليوم أو انعدامها، وقد اكدتم مخاوفكم من هذه الكارثة الأكبر، وبالأخرى، "جزرة" التفهيم والتفاهم كي يقتنع من وضع العقدة تحت المنشار بأنه عليه أن يرضى "بالتي هي أحسن" إذ يختار، برضاه، خير الوطن العام على خير مصالحه الخاصة وحماية ثروته ومكتسباته التي استغفل الشعب والقضاء والقوانين الداخلية والدولية للتوصل إليها؟ كما ما أحوجه لتضافر قوتكم وقدراتكم ودبلوماسيتكم مع ما أُعطي منها لقائد الجيش لدرء خطر الانفلات الأمني وتفتت لبنان النهائي وبالتالي ذوبان القوى المسلحة كأمن عام وأمن داخلي وأمن حدودي، وبالتالي سقوط البلاد تحت انياب الذئاب الكاسرة من كل حدب وصوب؟ وهذا، لا ريب، ما كان مقصودا منذ 1975 خدمة للعدو الصهيوني. من أدرى منكم، سيادة القائد، بعمق مقولة الفيلسوف جبران في الحياة والموت والمسؤولية المترتبة عن سبر أغوارهما، لكثرة ما كنتم ولا تزالون قريبين جدا من اللحظات الحاسمة التي تفصل بين الموت والحياة وبين أن يعاد أنسانٌ مخطوفٌ إلى أمه حيا أو ميتا؟ من أفهم منكم بقواعد اللعبة الشيطانية التي تضرب لبنان منذ زمن وقد حددتموها بقولكم: "الموضوع له علاقة بإدارة الأزمة التي حتى الآن لم تؤد الى حلول، وهي ادارة خاطئة... الجميع مسؤولون عنها من اقتصاديين وماليين، وفي مكان ما هناك من يمنعنا من الخروج من هذا النطاق، وتراجُع سعر الليرة امام الدولار دليل على ان لدينا ازمة شبه مستعصية."
عليه، وبما ان الوضع المأساوي يضع الشعب اللبناني أمام إشكالية الحياة أو الموت والتي بدأت بوادرها تظهر من خلال الانتحارات والجرائم التي سألك التلامذة عنها، والمخاوف المحقة التي تتركها عندهم كما عند أهلهم، أضعكم أمام مسؤوليتكم الضميرية الإنسانية والوطنية، بأن لا تتوانوا عن التدخل بحل مشكلة لبنان في أساسها، وليس فقط بانتخاب رئيس للظرف الآني، لا بل باستشراف "المرحلة المقبلة" والاطلاع على رؤية "الجمهورية الخامسة" الحاملة لـ "الحل الجذري للمعضلة اللبنانية" بهدف قيام لبنان أفضل على ما قلتموه للمقاصديين: "نحن في ذروة الحاجة الى الحفاظ على كرامة الانسان التي هي أعزّ ما للإنسان في العالم...
و[توجيه] شعبنا الكريم الذي يريد الحياة، وقد أتعبته قياداتٌ فرّقته اطماعُها القاتلة، وسلوكُها الهدّام، وافسدته الشعارات الزائفة المضللة." وأضمّ صوتي إلى صوتكم بصرختكم الصائبة لكافة الشرفاء اللبنانيين: "الوطن يناديكم فلا تبخلوا في السعي الجامع حول العنوان الأوحد، صون الوحدة الوطنية. وأنتم، بتاريخكم المشرّف، الاقدر على توليد المبادرات الهادفة الى الغاء الحواجز المصطنعة او دعم المبادرات الصادقة الساعية الى ايجاد الحل ووقف الانهيارات المتسارعة." وها انا أرفع باسم أولئك الشرفاء كافة مشروع تعديل النظام اللبناني تحت عنوان "الجمهورية الخامسة" لأنه لا يجوز أن "تسكب خمر جيدة في زقاق عتيق ولا أن يرقّع ثوب مهترئ برقعة جديدة". فلا مناص من أن يتحمل كل منا المسؤولية، "لأن مسؤولية الانقاذ تقع على عاتق الجميع بلا استثناء".
وإنني إذ أتفهم جوابكم حول التوسط بين مرشحين متناقضين لرئاسة الجمهورية، المعتبر رفضا منكم بالتدخل لأنكم على ما قلتم: "في اي ملف اتعاطى به لا اقوم بدور الانتحاري ولا الاستشهادي، بل ادرس الظروف وعلى اساسها اقرر الدخول مهما كانت المهمة صعبة، وحتى الآن لم اقرر الدخول في هذا الملف، لان الظروف الدولية والداخلية والاقليمية غير مؤاتية حاليا." وهذا ما يدل، كما سبق وذكرته، على عمق الدبلوماسية لديك، والخبرة التي تجعل الشعب ينتظر منك الأكثر. وبإذنه تعالى، إن تم تعديل الدستور بحسب مفاهيم "الجمهورية الخامسة"، وألغيت الأعراف البائدة، تكونون أنتم من المرشحين لرئاسة الجمهورية القادمة، وعندها حتى من سافروا وهاجروا يعودون، ويَتضِّح الفرق بين الموت عن الوطن والموت من أجل الوطن، وعلاقة الحياة بهما. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
الأب د. ميخائيل روحانا الأنطوني
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار