بيروت تخرج من «مزاج» الأعياد لتجد نفسها سريعاً وجهاً لوجه أمام روزنامةِ أزماتٍ «تُقْلِع» بها سنةٌ جديدة لم تبدأ «على بياض» بل تملأها «ملفات سود» في السياسة والمال أنْهكت لبنان وشعبه في الأعوام الأخيرة ووضعتْه أمام مفترق طرق... مصيري.
ورغم أنه يوم عطلة، فقد انطبعَ أمس بحِراكيْن الأول من «حزب الله» في اتجاه الكنيسة المارونية والثاني من وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكورنو الذي أكمل جولته على كبار المسؤولين، فيما كانت المزيد من الغيوم الداكنة تتلبّد في سماء العلاقة بين رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي و«التيار الوطني الحر» (حزب الرئيس السابق ميشال عون) المحكومة بـ«توتر عالٍ» دستوري - سياسي مرشَّح للتصاعد في ظل اشتباكٍ تَجدَّد مع رئيس البرلمان نبيه بري وغياب أي مانعة صواعق داخلية أو خارجية من شأنها إخراج لبنان سريعاً من «منطقة الأعاصير» التي يؤجج الشغورُ الرئاسي المتمادي من عصفها.
ومع أن أي مواقف معلَنة من الوضع اللبناني المأزوم لم تَصدر عن وزير الدفاع الفرنسي الذي كان وصل إلى بيروت لتمضية رأس السنة مع وحدة بلاده العاملة في قوة «اليونيفيل» في الجنوب والتقى أمس بري ووزير الدفاع موريس سليم وقائد الجيش العماد جوزف عون، فإن زيارةَ لوكورنو اعتُبرت بمثابة رسالة «مدوْزنة» بأن اهتمام باريس بالملف اللبناني لن يتراجع في 2023، علماً أن هذه الزيارة جاءت بديلاً عن محطةٍ كان الرئيس ايمانويل ماكرون يعتزم القيام بها للغاية نفسها قبل أن يعْدل عنها «منعاً لأي تأويلات أو سوء تفسير» ولأنها لا ترتكز على أي مبادرةٍ أو مشروع حلّ يُعتدّ به.
ويسود ترقب لبناني لاجتماع فرنسي - أميركي - قطري - سعودي يجري الحديث عن أنه سيُعقد في باريس منتصف هذا الشهر لاستكمال استكشاف آفاق إخراج لبنان من النفق المظلم الذي يشكل الفراغ الرئاسي أحد عناوينه الشائكة والذي يتم التعاطي معه على أنه يمكن أن يكون له «تأثير الدومينو» الإيجابي على مسار الانهيار المالي بحال تمت معالجته بما يُطَمئن الخارج إلى بدء استعادة الوطن الصغير «توازنه» السياسي.
وفي حين لا يتوهّم أحد في لبنان بأن ثمة حلولاً على الأبواب في ضوء استمرار التعقيدات الإقليمية وعدم تبلور تقاطعات حاسمة حول أولويات دول التأثير بالواقع المحلي، فإن الداخل اللبناني يَمْضي في الدوران داخل الحلقة المفرغة وسط تَمدُّد الخلافاتِ بين المكوّنات السياسية - ولا سيما في صفوف الموالاة – على خلفية الانتخابات الرئاسية والمرشّح الذي سيكون «الحصان الرئيسي» في السِباق الى قصر بعبدا، فيما المعارضة لم تصل بدورها بعد إلى توافق على اسم واحد يتيح لها أقلّه الذهاب إلى طاولة التسوية، التي يفرضها التوازن السلبي في البرلمان، بأفضليةٍ تعزّز «حصّتها» في الرئيس العتيد.
وعلى وقع الاهتزاز المستمرّ في علاقة «التيار الحر» مع «حزب الله» الذي يقف خلف سليمان فرنجية بوصفه المرشح رقم واحد وممانعة النائب جبران باسيل التسليم بهذا الأمر من دون ضماناتٍ ليس أقلها «وعد» من قيادة الحزب بدعمه لرئاسية 2029، أكمل «حزب الله» أمس الزكزكة الناعمة للتيار بإبقاء ورقة قائد الجيش قائمةً على قاعدة «لا فيتو عليه»، وذلك بعدما كان باسيل جاهر برفْض وضعه أمام معادلة «إما فرنجية وإما جوزف عون».
وجاء موقف «حزب الله» بعد زيارة بارزة قام بها أمس وفد منه برئاسة رئيس المجلس السياسي إبراهيم أمين السيد للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي مقدّماً التهاني بالأعياد «وكانت مناسبة تم فيها التطرق الى المستجدات على الساحة الداخلية ولا سيما في ما يتعلق بالشغور الرئاسي».
واكتسبت الزيارة دلالات مهمة، إذ أعقبت انقطاعاً طويلاً أقرب إلى القطيعة بين بكركي و«حزب الله» على خلفية ملفات عدة، بدءاً من دعوة البطريرك لتدويل القضية اللبنانية وتطبيق قرارات الشرعية الدولية وبينها ذات الصلة بسلاح الحزب، وقضية توقيف الأمن العام المطران موسى الحاج لساعات خلال عودته من «الأراضي المقدسة» على معبر الناقورة الحدودي مع إسرائيل، وصولاً إلى رفض الكنيسة مقاربة الاستحقاق الرئاسي من خارج الانتخاب الديموقراطي أو عبر «توافق مسبق» محدِّدَةً للرئيس العتيد مواصفاتٍ تنطلق من أن يكون «سيادياً» ويعيد علاقات لبنان مع العالم العربي والمجتمع الدولي ويرعى بسْط الدولة سلطتها على كامل أراضيها.
وبعد اللقاء، قال السيد رداً على سؤال عن علاقة الحزب بالصرح البطريركي وفتْح صفحة جديدة: «لا وجود لصفحة قديمة وصفحة جديدة. الصفحة مفتوحة دائماً بيننا إلا أن الاوضاع في البلد كوباء كورونا وغيره فرض فسحة زمنية محدَّدة إلا أن هذه الفسحة كانت جيدة لأنها تزيد من الشوق وليس الجفاء بين المُحِبين».
وإذ أشار الى أن البطريرك «قدّم رأيه وحرصه على انجاز الاستحقاق الرئاسي بأقرب فرصة، والمطلوب التعاطي معه بمسؤولية عالية»، لفت رداً على سؤال الى أن «لا تباين بيننا وبين غبطته، إنما هناك تبادُل لوجهات النظر قائم على الحرص على انتخاب رئيس من أجل أن ينهض بالمسؤوليات تجاه لبنان. وأبدينا رأينا في الموضوع وقلنا إن الوضع السياسي في لبنان والمشاكل والأزمات تستدعي المزيد من الحرص على انتخاب رئيس بأقرب فرصة».
وأضاف: «لكن كما هو معروف في التركيبة السياسية المعقّدة ولا سيما في المجلس النيابي الذي عليه أن يأتي بنسبة عالية من التوافق والمشروعية السياسية والشعبية ليتمكن من النهوض بالبلد، لذلك أن يأتي رئيس تحدٍّ أو كسر أو مواجهة، فلا البطريركية في هذا الصدد ولا نحن ايضاً.
المطلوب حوار حقيقي في لبنان خصوصاً في المجلس النيابي وهذا ما دعا إليه الرئيس بري. حوار حقيقي وجدي بين الكتل النيابية للتفاهم على حد أدنى وعلى رئيس يمكن ان ينهض بلبنان. وقد يكون هذا الطريق الوحيد أمامنا للوصول الى انتخاب رئيس».
وفي حين اعتبر رداً على سؤال حول التوافق على اسم رئيسٍ ان «الجوهر هو اتفاق الكتل على اسم رئيس يحصل على الحد المعقول من الوفاق من أجل النهوض بالبلد»، قال حول دعم الحزب وتأييده لقائد الجيش اذا تم التوافق على تسميته لرئاسة الجمهورية: «بالتوافق نحن نقبل النتيجة ونحن لا نضع فيتو على أحد.
رأيُنا واضح والطريق إليه هو التوافق والحوار ونحن منفتحون على الحوار وأي مدى يمكن أن يصل إليه.
علاقتنا مع قائد الجيش العماد جوزف عون في أحسن حالاتها ولكن موضوع الرئاسة شيء آخر. العلاقة بيننا تأسست على الخير ومستمرة على الخير. وعندما يصبح الحوار جدياً نعطي رأينا».
وعن تعليقه على ما قاله باسيل عن ان اتفاق مار مخايل مع الحزب يقف على قدَم ونصف، قال: «لسنا في صدد مناقشة هذا على الإعلام بل نناقشه مباشرة. من حقه أن يقول رأيه. ونحن سعداء بما أنجز من تفاهم مع التيار الحر، ونعرف كيف نختلف في ما بيننا».
وفي حين يُنتظر أن يكمل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في إطلالته اليوم مقاربةَ الحزب لمجمل الواقع اللبناني، وإن كانت كلمته تتمحور حول ذكرى اغتيال الجنرال قاسم سليماني وطغى عليها عنوان صحته بعدما أرجئت كلمة له كانت مقرَّرة الجمعة الماضي بسبب إصابته بالانفلونزا، فإن تقارير أشارت إلى أن «التيار الحر» يتجه لـ «ردّ الصاع» لميقاتي في إطار المكاسرة بينهما حول عقد جلسة لحكومة تصريف الأعمال في ظل الشغور الرئاسي وإصدار مراسيم بالقرارات التي خلصت إليها وأحدها يحمل توقيع وزير الدفاع واعتبره التيار «أسلوباً احتيالياً» وبمثابة «استعمال المزوَّر».
ووفق هذه التقارير فإن «التيار الحر» سيبدأ اليوم بإجراءات تقديم الطعون بالمراسيم التي أصدرتها حكومة تصريف الأعمال، وسط ترقُّب لِكيف سيتلقف ميقاتي هذا الأمر وهل سيكون في وارد الدعوة لجلسة جديدة للحكومة، وهل سيوفر «حزب الله» مرة جديدة غطاءً لمثل هذه الجلسة سيكون بمثابة «حرْق الجسور» مع باسيل؟