14-11-2022
مقالات مختارة
|
الجمهورية
مفاجئة كانت إثارة مسألة نصاب انعقاد جلسة مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية. ربما كان السؤال عن أي نصاب يوجب انعقاد تلك الجلسة، بريئاً، تسلّل الى صاحبه الجهل بمندرجات الدستور والأعراف اللصيقة به، فسعى إلى أن يُغني خزّان المعرفة لديه بشيء يجهله! وربما كان السؤال تعبيراً عن ذهنية تعاني نفخة كاذبة، ومصرّة على الاستعراض الفارغ وتعليق نفسها على شماعة النكد. وايضاً، ربما كان هذا السؤال خبيثاً يستبطن بلوغ غاية ما، على شاكلة التسويق لـ»مغامرة انتخابية» تدغدغ بعض الأذهان، يُمهَّدُ لها بإشعال شرارة تلقي البلد في حقل مشتعل من السجالات العقيمة والتفسيرات المتصادمة للدستور ولنصاب الثلثين والنصف زائداً واحداً!
بمعزل عن الجهل البريء، والقصد الخبيث، فإنّ الجواب عن الحالتين جاء صريحاً ومباشراً من قِبل الرئيس نبيه بري: إقرأوا الدستور.
المثير في الأمر، انّه لم ينته عند هذا الحدّ، فثمة من توعّد بإثارة متكرّرة لهذه المسألة في كلّ جلسة. وفي منحى متناغم مع هذا المنطق، نبتت فجأة اجتهادات تبرّر إثارة مسألة النّصاب ارتكازاً على انّ المادة 49 من الدستور لا تأتي على ذكر النصاب، بل على غالبية الثلثين (86 صوتاً) من اعضاء المجلس لانتخاب رئيس الجمهورية في الدّورة الأولى، وعلى الغالبية المطلقة ( 65 صوتاً) في الدورة الثانية وما يليها».
أمام هذه الإثارة، ينبغي التمعّن في أمرين:
الامر الاول، في ما قاله الرئيس حسين الحسيني، ويمكن اعتباره جواباً شافياً على مثيري مسألة النّصاب، حيث قال ما حرفيته: «حتماً نصاب الثلثين هو نصاب انعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في كل الدورات. وثبات هذا النصاب ناجم عن الفقرة الاولى المحدثة في المادة 49، عندما تتحدث عن رئيس الجمهورية على انّه رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يسهر على احترام الدستور، فلا يصح عندئذ انتخابه الّا في حضور ثلثي مجلس النواب على الاقل. والمادة 49 الجديدة المعدّلة لدى مناقشتها لم تلقَ اي اعتراض، واول تطبيق لها كان في انتخابنا الرئيس رينه معوض».
الأمر الثاني، في تاريخ هذا البلد والاستعانة به، والعودة إلى جلسات انتخاب رئيس الجمهورية ما قبل الطائف وما بعده. حيث انّ نصاب الانعقاد والانتخاب كان ثلثي اعضاء المجلس النيابي عدّاً ونقداً، فما فوق.
قد يعتقد البعض انّ إثارة مسألة نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية وليدة اليوم؛ هذا بالتأكيد اعتقاد خاطئ، ذلك انّ المسرح السياسي شاهد على تجارب عديدة التزمت التزاماً كلياً بنصاب «الثلثين»، ولم تحدّ عنه او تفكر بتجاوزه على الاطلاق. وشاهد ايضاً على التجربة المريرة التي حصلت لتجاوز هذا النصاب، في ذروة صعود فريق «14 آذار» في الفترة التي تلت انتهاء ولاية الرئيس اميل لحود في العام 2007.
في فترة الصعود تلك، كان فريق «14 آذار» محاطاً برعاية واحتضان كاملين من الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا ومن كلّ المجتمع الدولي تقريباً، واعلن تجاوزه صراحة لنصاب الثلثين، وعزمه على انتخاب رئيس للجمهورية من هذا الفريق بالنصف زائداً واحداً، وروّج آنذاك لقصر بيت الدين مكاناً بديلاً لمجلس النواب. ودايفيد ولش الذي كان مساعداً لوزير الخارجية الاميركية في تلك الفترة، قال صراحة إنّ واشنطن سوف تعترف بأيّ رئيس للجمهوريّة ينتخبه فريق «14 آذار»، وهي لا ترى ما يمنع انعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهوريّة بنصاب النّصف زائداً واحداً. وبرنار كوشنير الذي كان وزيراً لخارجية فرنسا قال في تصريح شهير له انّ باريس ستعترف برئيس لبنان حتّى ولو انتُخب بالنصف زائداً واحداً. والذاكرة تسجّل ايضاً دخول تيري رود لارسن بشكل مفاجئ على الخطّ الرئاسي، محمّساً ومبرّراً لفريق «14 آذار» انتخاب رئيس الجمهوريّة بأكثريّة النّصف زائداً واحداً. فردّ عليه الرئيس بري بشكل قاسٍ ولاذع وقال: «نام هذا اللارسن دهراً وعندما استيقظ نطق كفراً، ونحن لسنا من الكافرين».
رغم كل هذا الدعم، لم يتمكن مثيرو مسألة النصاب من إطاحة نصاب الثلثين، وأخفقوا في تحقيق ما كانوا يسعون اليه.
من عاصر تلك الفترة، يفترض انّه كان شاهداً على المجريات التصعيدية التي سادت آنذاك؛ فريق «14 آذار» لم يعدم وسيلة تصعيدية لانتخاب الرئيس بنصاب النصف زائداً واحداً، فيما الرئيس نبيه بري، من موقعه السياسي وكرئيس لمجلس النواب، جنّد نفسه كرأس حربة دفاعاً عن الطائف، وفي مواجهة ما سمّاها «سابقة خطيرة تنسفه»، وتتجلّى في انتخاب رئيس الجمهورية بنصاب النصف زائداً واحداً. ومشهود له قوله المباشر لهذا الفريق آنذاك، وفيه ما حرفيّته: «أنصح من يفكّر في انتخابات رئاسيّة بنصاب النّصف زائداً واحداً بأنّه لن ينال من ذلك سوى التعب، أنا لن أخالف الدستور على الإطلاق، كما لن أسمح بمخالفته. ومن هنا فإنّ انتخاب رئيس الجمهورية يتمّ بنصاب الثلثين ونقطة على السطر، وأمام استمراركم في محاولة الإطاحة بالدستور، وإقفال الطريق على كلّ جهد يُبذل لإحلال التوافق بدل الخصام، فإنّ طرحكم بالانتخاب بالنصف زائداً واحداً لن يطأ درج مجلس النواب أبداً».
ومن عاصر تلك الفترة أيضاً، يفترض انّه شهد على دور البطريرك الماروني الراحل نصرالله بطرس صفير في الاستحقاق الرئاسي آنذاك، ووقوفه في موقع الضدّ لأيّ مسّ بنصاب انتخاب رئيس الجمهورية، والرافض قطعاً لأي إجراء يمسّ او يهين موقع رئاسة الجمهورية والرئيس.
في تلك الفترة جاهر البطريرك صفير علناً برفضه تكريس عرف جديد، وذاكرة البلد حفظت له قوله آنذاك: «رئيس الجمهوريّة، ينبغي أن يكون رئيساً للجميع، ويجب أن يتمّ انتخابه وفق ما ينصّ عليه الدستور وبنصاب الثلثين. ونصاب النّصف زائداً واحداً والفراغ في رئاسة الجمهوريّة مدمّران. وقد كنّا وما زلنا نؤكّد على احترام الدستور، وهو ينصّ على نصاب الثلثين، وكنّا ايضاً وما زلنا ندعو إلى وقف المتاجرة السياسيّة بالنصاب وعدم إدخال موقع رئيس الجمهوريّة في بازارات السياسة. ومن هنا نحذّر من أنّ هذا الأمر من شأنه أن يُفقد هذا الموقع هيبته ومكانته. والفراغ لا يصيب موقع الرئاسة الأولى في الصميم فحسب، لا بل أنّه يمسّ بالميثاق الوطني. والكنيسة ترفض هذا الأمر بشكل قاطع».
كان البطريرك صفير مؤيّداً للمنحى التوافقي الذي انتهجه الرئيس بري لتركيز الاستحقاق الرئاسي في تلك الفترة على أرضية توافقية، وانتخاب رئيس الجمهورية وفق مندرجات الدستور، وهو ما يعتمده مع الاستحقاق الرئاسي الحالي. واستتباعاً لموقف البطريرك الراحل وتحذيراته، بادر بري آنذاك الى ارسال رسالة الى سيد بكركي، جاء فيها ما حرفيّته: «لا تقلق يا صاحب الغبطة، إنّهم سيتعبون كثيراً معي، ولن يحصل انتخاب رئيس للجمهوريّة إلّا وفق الأصول، وبعد أن أحصي 86 نائباً فما فوق قد دخلوا قبلي إلى قاعة الهيئة العامّة لمجلس النوّاب».
أمام صمود منطق «الثلثين»، يئس الفرنسيون من تبنّي منطق النّصف زائداً واحداً. وسلّموا بمنطق التوافق وانتخاب الرئيس وفق ما ينص عليه الدستور. وكذلك تراجعت واشنطن وسلّمت باستحالة اعتماد نصاب النصف زائداً واحداً، وبوجوب اعتماد الآلية الدستورية بانتخاب رئيس بنصاب الثلثين. وهذا التراجع تبدّى في موضعين:
الاول في بكركي، بعد لقاء عقده دايفيد ولش آنذاك مع البطريرك صفير، ولخّص ولش وقائعه بقوله: «لقد قال لي البطريرك، إنّ نصاب الثلثين هو المطلوب دستوريّاً في جلسة انتخاب رئيس الجمهوريّة، وهذا بالنسبة إلى البطريركيّة المارونيّة، أمرٌ مهمٌ جدّاً، وغير قابل للجدل، وإنّها لن تتهاون معه لئلّا يأتي رئيس الجمهوريّة بنصاب آخر، ضعيفاً وعرضة للإنتقاد والمساءلة عند أيّة محطة».
الثاني، في عين التينة، خلال لقاء عقده مع الرئيس بري، حيث قدّم رئيس المجلس لولش،
- الذي كان يعدّ قائداً لطرح انتخاب رئيس بنصاب النصف زائداً واحداً - عرضاً مفصّلاً للآلية الدستوريّة التي ترعى انتخاب رئيس الجمهوريّة. وأعاده بالذاكرة الى ما حصل في انتخابات رئاسة الجمهوريّة في العام 1988، وقال له «أنتم الاميركيون، كنتم موجودين في تلك الفترة في لبنان، وأعتقد أنّكم لم تنسوا الشعار الشهير الذي أطلقه المساعد الأسبق لوزير الخارجيّة الأميركيّة ريتشارد مورفي آنذاك، «مخايل الضاهر أو الفوضى»، أنتم يومها لم تتمكّنوا من فرض رئيس للجمهوريّة، واللبنانيّون أخفقوا في تلك الإنتخابات في انتخاب رئيس، نتيجة تعثّر انعقاد جلسة 18 آب 1988 بنصاب الثلثين».
كما قال له: «لم يُسجّل في تاريخ لبنان أن تمّ تخطّي نصاب الثلثين لجلسة انتخاب رئيس الجمهوريّة، ولم يستطع أحد، لا بل لم يجرؤ أحد على محاولة فرض عرف جديد، أو فرض سابقة لكسر نصاب الثلثين. حتى في أحلك الظروف التي مرّ فيها لبنان، ولعلّ أصعبها الإجتياح الإسرائيلي في العام 1982. في تلك الفترة تمّ انتخاب الشيخ بشير الجميّل واعتمدوا نصاب الثلثين ومدّدوا الجلسة آنذاك إلى ما بعد الظهر حتى يتأمّن هذا النّصاب. وبعده انتخبوا الشيخ أمين الجميّل بنصاب الإنعقاد ذاته». وفي خلاصة الكلام، انّ نصاب الثلثين هو النصاب المطلوب دستوراً وقانوناً ومنطقاً وعرفاً وممارسة.
بناءً على ما تقدّم، فإنّ إثارة مسألة نصاب الانعقاد والانتخاب، أياً كانت دوافعها ومراميها، ما هي الّا محاولة للعب في الوقت الضائع، ولن توصل الى اي مكان سوى بعض الإثارة السياسية والإعلامية.. وعلى ما يقول الرئيس بري: «الفراغ الرئاسي مكلف، وحال البلد بالويل، فدعونا لا نضيّع الوقت ولنوقف الدوران في هذه الدوامة، التي لا مخرج منها سوى بالتوافق».
أخبار ذات صلة
من دون تعليق
بري ،، يعرف او لا يعرف؟