28-08-2022
آفــاق
|
اينوما
الدكتورة ميرنا داوود
أستاذة جامعية وكاتبة
لعبة الروليت الروسية مختلفة تماما عن لعبة الميسر(القمار) التي تدور فيها طاولة دائرية بسرعة لتستقر كرة صغيرة عند رقم معين يربح صاحبه ثروة طائلة
الروليت الروسية هي لعبة الموت، والروليت هنا هو خزان مسدس كمسدسات أفلام الوسترن(الغرب الاميركي) أفرغ من طلقاته ما عدا طلقة واحدة، يديره شخص بسرعة ليستقر بشكل عشوائي عند وضعية معينة، ثم يسدده إلى صدغه ويضغط على الزناد. لا أحد بإمكانه أن يعلم فيما إذا كان ذلك سيطلق رصاصة حية تفجر رأس مطلقها أو سيؤدي فقط إلى خوف صاحب المسدس الذي ستكتب له النجاة.
تعكس لعبة الروليت الروسي في السياسة نزعة انتحارية
فمن يحدد فيما إذا كان القتال ضد قوة غاشمة فعلا شريفا مثل نضال المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي إبان الحرب العالمية الثانية، أو نضال الكادحين كما في زمن الجنرال فرانكو الإسباني، أو نضال البولنديين ضد الهولوكوست؟
من يحدد فيما إذا كان القتال الذي تخوضه ميليشيات معينة في صراع دموي مدمر ذا دافع نبيل أم أنه يجري بدافع تعصب ديني أو طائفي أو عنصري بغيض؟ من هو التكفيري حقا بين ميليشيات دينية متطرفة ومتنازعة بقوة السلاح تتهم كل منها الأخرى بالشر، تكيد لها وتهدر دمها؟
تنشب المعارك غالبا نتيجة استفزاز صريح. هنا، يصبح اللجوء إلى القوة بمثابة ضربة استباقية لمنع حرب ضارية. لا شيء طبعا يفضل الحل الدبلوماسي القائم على مفاوضات جادة للتوصل إلى منطقة تفاهم وسطية. أما عندما يسد أفق التفاوض ويدفن الأمل مسبقا، لا يبقى ثمة حل متاح في الأفق سوى الردع عن طريق استعراض العضلات.
من المؤسف أن يصبح اللجوء إلى العنف موقفا لا بديل عنه، لأنه في الحالات التي يتأجل فيها الرد يجعل هذا الكبح للنفس صاحبه أشبه ببطة عرجاء يتبارى الصيادون على اقتناصها، ويؤدي إلى خسائر مضاعفة للهيبة كما للأرواح والممتلكات. يستسيغ الوجدان الكلام المثالي العذب عن تجنب الحروب، إنما ـ للأسف الشديد ـ باتت النزعة الاستباقية في عصرنا كامنة تحت الرماد، ربما لا تراها العين المجردة من النظرة الأولى، لكن جمرها ما زال متقدا يهدد باندلاع حرائق تلتهم الأخضر واليابس.
تنقسم لعبة الروليت الروسي إلى لعبة طرف حائر ومحبط إلى درجة تسليم مصيره إلى الغيب تارة، أو عنيد مكابر في مواجهة تدخل أجنبي تارة أخرى.
بالتأكيد، يقدم بعضهم كثيرا من المبررات البلاغية لممارسة تحدٍ صلفٍ سيجلب غالبا عواقب وخيمة . وتحذر أصوات من مؤامرة خارجية ذات أهداف مغرضة، لكن أحدا لا يعنى بتوضيح ماهية أهداف ودوافع تلك المؤامرة.
ترى، أين تنتهي حقوق أمة وتبدأ حقوق أمة أخرى؟ هل من الشرعي مثلا إرسال قوات إلى بلد آخر يحتدم فيه القتال أو يشهد اضطرابات داخلية؟ هل من الشرعي اقتطاع منطقة بأسرها من بلد ما وضمها بالقوة تحت ذريعة استفتاء زائف؟
تعكس لعبة الروليت الروسي في السياسة نزعة انتحارية، لأن الحياة فيها معلقة على شعرة واهية، والموت رهن مشيئة الحظ المطلقة
في الواقع، لا خيار تملكه الشعوب في عصرنا بين حرب وسلم، فالمعارك الصغيرة صارت تحدث بالوكالة على أرض محايدة لتصفية الحسابات بين قوى متصارعة بشكل غير مباشر، والقرار الحاسم في نهاية الأمر ملك للدول العظمى وحدها، ورهن باختلاف مصالحها أو اتفاقها.
هكذا، يبقى الخيار بين الجنوح إلى السلم واردا فقط عن طريق القبول بحل وسط يعيد السلام وحسن الجوار، في حين أن الإصرار على توريط بلدان شرق ـ أوسطية بحرب مباشرة كبرى أشبه بلعبة الروليت الروسي، مخاطرة ذات عواقب مميتة .
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار