14-06-2022
مقالات مختارة
|
الأخبار
نقولا ناصيف
نقولا ناصيف
ليست المرة الأولى التي تتأخر فيها الدعوة الى الاستشارات النيابية الملزمة، أو تؤخّر. أولى المرات عام 2011 في ثالثة حكومات عهد الرئيس ميشال سليمان بأن أُرجئت أسبوعاً. المصادفة أنها آلت الى تسمية الرئيس نجيب ميقاتي رئيساً مكلفاً تأليف الحكومة. في العهد الحالي، أربع مرات تأخرت أو أُخّرت الدعوة: أولى عام 2019 تأخرت 50 يوماً الى أن سُمّي الرئيس حسان دياب خلفاً للرئيس سعد الحريري، ثم ثانية عام 2020 تأخرت 21 يوماً الى أن استقرت التسمية على السفير مصطفى أديب، ثم ثالثة عام 2021 تأخرت 26 يوماً الى أن سمّت الحريري فاعتذاره كي تحل المرة الرابعة بعد 11 يوماً وتنتهي الى تسمية ميقاتي رئيس حكومة تصريف الأعمال. هكذا بدأت معه السابقة ولا تنتهي به. هو المرشح الأوفر حظوظاً.
بعدما اعتاد تكليف رئيس تأليف الحكومة أن لا يحتاج الى أكثر من خمسة أيام لإجراء الاستشارات النيابية الملزمة، أضحت الآن جزءاً لا يتجزأ من الاشتباك الدائر من حول التأليف، على نحو مطابق للصلاحية الدستورية المماثلة التي تطلق يد الرئيس المكلف في التأليف بلا ضوابط وبلا مقدرة على إلزامه بمهلة مقيِّدة للتأليف، كما مهلة مشابهة لانتزاعه منه. سرعان ما تمسي الصلاحية هذه سلاحاً لا يضاهى في يد الرئيس المكلف.
منذ عام 2019، ثبّت رئيس الجمهورية ميشال عون تباعاً ممارسة عُرف في الصلاحية المنصوص عليها في المادة 53 من الدستور، بأن تنيط به الدعوة الى إجراء استشارات نيابية ملزمة. صلاحية ملزمة إياه إجراءها من دون أن تكون مقيِّدة له بمهلة. لذا يسهل الاجتهاد في ممارستها ما دامت مقتصرة على الرئيس ولا تملك أيّ مرجعية دستورية أخرى انتقاصها منه أو إرغامه على مهلة محددة. تحوّلت الى مُعادِلٍ مواز لاستنكاف الرئيس المكلف عن استعجال تأليف الحكومة، فإذا الرئيسان، باجتهادين كرّساهما عُرفاً لا نصاً، يتبادلان اللكمات في المرحلة الأولى الممهّدة لتكوين سلطة إجرائية جديدة. على نحو كهذا، يصاب الاستحقاق بالعطب مرتين: ما قبل التكليف وما بعده.
على أبواب إمرار الشهر الأول على الاستقالة الحكمية لحكومة ميقاتي، فإن ما بعد التكليف هو المعضلة لا تسمية رئيس مكلف. حساب الأصوات والقوى المؤيدة لعودة ميقاتي تجعل تسميته مضمونة، سواء بنصاب الغالبية المطلقة أو بنصاب غالبية نسبية. بيد أن المشكلة تبدأ مذذاك، ما إن يضع المرشح يده على التكليف يمتلك سرّه، سواء بفرض شروطه للتأليف أو بإبرام مقايضات في الحصص والمقاعد والتوزير، أو في دفع الاستحقاق الى مأزق الجمود. في أسوأ الاحتمالات، إذا عزم على الاعتذار عن عدم تأليف الحكومة يعيد المشكلة الى أولها. بذلك استدرج إبطاء التأليف صلاحية موازية له، هي ربط المقايضات والتفاهمات بالتكليف سلفاً لئلا يكون ضحية التأليف. كلا الفعليْن مناوئان للدستور، ومناقضان لأحكامه.
إذا تحدد موعد الاستشارات النيابية الملزمة قريباً، فإن التكليف يبدو في ظاهره عادياً معروف النتائج وإجراءً دستورياً حتمياً، إلا أن توقيته ربما يحيله أقل أهمية في ما ينتظره في المرحلة التالية:
1 ـ منذ اليوم، يسابق العد التنازلي للأيام الـ 77 الفاصلة عن بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. مقدار التيقّن من تسمية رئيس مكلف، تحوم الشكوك من حول تعذّر تأليف الحكومة بالسهولة المتوخاة، في ضوء الشروط المتبادلة بين ميقاتي، الأوفر حظاً للمنصب، وشركائه الآخرين في التأليف. ما يطلبه، وهو تعويم حكومته المستقيلة من خلال إعادة إصدار مراسيم تأليفها كأنها للمرة الأولى ومثولها مجدداً أمام مجلس النواب لنيل الثقة، يفقد الأفرقاء هؤلاء التأثير المباشر في مجلس الوزراء متى تعذّر انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ليست التجربتان السيئتان لمآل حكومة الشغور كاللتين خبرهما الرئيس فؤاد السنيورة عام 2007 و2008 والرئيس تمام سلام عامَي 2014 و2016 إلا أسطع دليل على فحوى الانقسام والشلل. مع أنهما كانتا حكومتَي اتحاد وطني انفجرتا من الداخل، ماذا تراه يحصل في وكلاء عن أصلاء؟
2 ـ هو ما ترويه وقائع مماثلة سابقة على أبواب نهاية ولاية رئيس للجمهورية. رغم الاعتقاد الشائع بأن الرئيس الموشكة ولايته على الانتهاء يمسي أضعف الأفرقاء، وأكثرهم استعداداً للتنازل بغية خروجه من ولايته آمناً، قدّم الرؤساء المتعاقبون دروساً لا تنسى في الأشهر الأخيرة في ولاياتهم عندما تعذّر انتزاع أي مكسب منهم بذريعة ضعفهم. في السنة الأولى من ولايته يملك الرئيس من القوة الإيجابية ما يجعله يفرض على الآخرين شروطه. في السنة الأخيرة يملك قوة مماثلة، لكنها سلبية يفرضها على الآخرين، هي رفضه التنازل عما لا يريد إعطاءه أو لم يعطه قبلاً. بذلك يتحوّل الرئيس ميشال عون، المفاوض الصعب في كل حين، الى المفاوض الأصعب في السنة الأخيرة، مقدار ما يسعه - إذا أراد وغالباً ما لم يتردد - أن يقدّم ما يفاجئ الآخرين به.
3 ـ لأن الاستحقاق الفعلي الذي يتصدّر الانقسام مرتبط بانتخابات رئاسة الجمهورية أكثر منه تأليف حكومة جديدة، يظهر فحوى الاشتباك أنه بين الأفرقاء المحليين كما لو أنهم يديرونه بأنفسهم، فيما هو يُدار من الخارج. ذلك ما يعنيه التوقيت المفاجئ لاستعجال مسار ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل واستخراج النفط والغاز، وربطه الضمني بالاستحقاق الرئاسي. أكثر المعنيين بهذا الربط هو الأكثر تأثيراً في إدارة انتخابات الرئاسة ومفاوضات الترسيم، وهو حزب الله. بعدما قدّم دليلاً على أنه قادر على استقطاب غالبية نيابية إليه، أتت المواقف الأخيرة للأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله من الترسيم كي تؤكد أنه - وهو يقف وراء الدولة - المفاوض الفعلي لترسيم الحدود البحرية.
في ظل موازين قوى داخلية لم يعد المجتمع الدولي يجهلها ويقلّل من أهميتها وفاعليتها في الداخل، واتصالها المباشر بمسارات تسويات إقليمية، لا مناص من تأكيد ربط الترسيم بالاستقرار الداخلي بدءاً بوقف الانهيار وإعادة انتظام المؤسسات والدولة، وتالياً رئاسة الجمهورية. لم يعد من مناص كذلك من ربط الترسيم - ما دام يريد إتاحة الفرصة للجميع كي يستخرجوا النفط والغاز من حقولهم - باستقرار الحدود اللبنانية - الإسرائيلية كواجهة آمنة مطلّة على الحقول البحرية. من دون ضمانات ممّن يسعه أن يقدّمها، يتعذّر إيصال الترسيم الى نهاياته. ذلك ما عناه نصر الله أيضاً بقوله أخيراً أن لا حفر في حقول الجنوب بما يتيح لإسرائيل حصولها على نفطها وغازها، دونما إتاحة الفرصة نفسها للبنان المحظّر عليه حفر آباره المائية شمالاً وجنوباً.
أبرز الأخبار