بعد أقل من أسبوعين ينتخب اللبنانيون مجلسهم النيابي الجديد، لن يكون جديداً كلياً في الواقع، بعض الوافدين الجدد لن يغيروا وجهه الكالح وخطابه السقيم ومساره العقيم. هذا مجلس لا ينتخبه الشعب اللبناني الذي سيقاطع نصفه أو أكثر الانتخابات بحسب الاستطلاعات والتجارب السابقة.
المجلس المقبل سيكون "أكبر" من هموم اللبنانيين ومشاكلهم، هذا مجلس القضايا الكبرى، التنافس فيه لن يكون على التشريع والرقابة، هذه أمور ثانوية تافهة بالنسبة الى الفاعلين السياسيين. المجلس سيكون، على أقل تقدير، معنياً بأزمة الحرب الأوكرانية والصراع الكوني على التجارة وطرقها وعلى النفط والغاز واحتلال الفضاء وسرقة الشمس والرياح مصدري الطاقة الجديدين. هذا مجلس سيدير تداعيات الصراع بين محوري الموالاة والممانعة (موالاة من وممانعة من؟) في المنطقة، هذا مجلس لبنان، ساحة الشرق والغرب وبيضة القبان في الصراع الدولي والإقليمي على الشرق الأوسط. هذا المجلس تنتظره ملفات كبيرة جداً مثل تحرير فلسطين و طرد أميركا من المنطقة وإخراج ايران من العراق وسوريا واعادة توحيد السودان ومصالحة الجزائر والمغرب وطرد الاتراك والروس ومرتزقتهم من ليبيا...وقد يكون له دور في تسريع طريق الحرير الصينية.
يصدق لبنانيون يتناقص عددهم باطراد، الروايات التي يرويها حكاؤون يظهرون قدراً من الجدية والمعرفة على المنابر وفي زيارات شد العصب الطائفي والحزبي وعلى مولقع التواصل الاجتماعي، من أن المجلس الجديد هو سيد المجالس وأنه القول الحسم وانه سيحدد مصير المنطقة والبلد والطائفة والمدينة والزاروب، وان الوقت ليس لترف التغيير فالقضية قصية وجود، واذا لم تنتخبونا فالوجود مهدد. دعكم من هؤلاء الذين يسمون أنفسهم ثواراً وتغييريين وإصلاحيين. ليس الوقت اليوم مناسباً لترهات الحرية والديموقراطية وما شابهها.
هكذا تتحول الانتخابات من مناسبة وعملية ديموقراطية حضارية لتجديد السلطة ومحاسبة من قصروا وفشلوا الى مناسبة تحريضية مذهبية وطائفية تحت شعارات وحدة الطائفة وحقوق الطائفة وقوة الطائفة وقضية الطائفة ومرجعية الطائفة وموقع الطائفة وحلفاء الطائفة وأصدقاء الطائفة.... التي تدربوا عليها طويلاً، وربما لا يعرفون غيرها. بالتأكيد لا يعرفون غيرها.
أما الناس الذين سيذهبون إلى الصناديق يوم 15 أيار ففقد وقع كثير منهم حتى الآن في مصيدة دهاقنة الطوائف. الاستقطاب يبلغ هذه الأيام أشده تحركه المرجعيات السياسية والحزبية المستنفرة بمواكبة من المرجعيات الروحية التي "تشنف" الآذان بخطابها التصالحي التوافقي الإنساني ثم بلحظة ما تتمترس وراء أكياس رمل الطائفة وتقذف بحممها في كل الاتجاهات. اللهم الا نفسي. من يزر أي قرية لبنانية اليوم قد يخيل إليه انه أمام انتخابات الكونغرس الأميركي الذي سيراقب سياسية رئيس العالم الاميركي القابض على حقيبة الأرقام السرية المتحكمة بمصير الكرة الأرضية برمتها.
المجلس المقبل هو مجلس حروب العالم والإقليم، لا وقت لديه لمشاكل تافهة مثل إفلاس البلد والناس والجوع وانهيار الاقتصاد وانعدام الكهرباء وانهيار الصحة والبيئة والمرافق الخدماتية والتشغيلية وتوقف الجامعة الوطنية. وسيطالب الشعب نوابه "الجدد" بوعودهم وسيكذبون عليه. وسيضحكون عليه مرة جديدة بعد أربع سنوات وعلى الأرجح سيعيد انتخابهم بعدما يغيروا الطرابيش. وعلى الأرجح سينتخب هذا البرلمان ذو المواصفات الكونية رئيساً للجمهورية يشبهه تماماً.
مشهد الحملات الانتخابية في البلد المفلس عملياً (وليس رسمياً) معبر جداً. وسائل اعلام متفرغة للترويج والتسويق في سوق عكاظ مفتوح، ملايين الدولارات تنفق على البرامج المدفوعة والحلقات الخاصة والريبورتاجات الترويجية. انها فرصة الاعلام المنكوب وسيستغلها لأقصى حد طالما هناك من سيدفع ثمن الكرسي، ألا يستحق كرسي "الكونغرس" الكوني أن تهدر لأجله الدولارات والكرامات؟. أصلاً معظم هذه الدولارات لم تتعب فيها الأيدي لتحزن عليها القلوب. المرشحون الأغنياء يدفعون ومعروفة مصادر ثرواتهم والمرشحون "الفقراء" هناك من يدفع عنهم.
لوحات إعلانية من مختلف القياسات، شخصيات "مستعملة" وأخرى جديدة، تصفع أعين المواطنين كيفما اتجهوا، وعود مستحيلة، وبالتأكيد كاذبة ككل الوعود السابقة، وجوه عابسة وأخرى باسمة، وكلها خاضعة للفوتو شوب، بعض اللوحات تكاد ترشح زيتاً وأخرى تنقّط دولارات، صور تتسلق جدران البنايات وأخرى أعمدة الكهرباء، معظمها ستدوسه الأرجل وسيحرق ويمزق شر تمزيق بعد انتهاء معركة 15 أيار (يوليو) التاريخية.
السماسرة هذا موسمهم وهذه مهنتهم التي يتعيشون منها، يبيعون ويشترون والأرباح 50 في المئة اذا لم يكن أكثر، ينصبون على الشاري (المرشح) وعلى بائع وجدانه (المقترع المدفوع الصوت).
هذا المشهد الكئيب المتوقع لن يغيره إلا إنقلاب سريع في الفكر والوعي وفي الوجدان، والا سينطفئ الأمل الذي أشاعته يوماً ثورة ابتدأت بأروع ما تكونه الثورات، وما بعد ذلك أصبح معروفا.