04-04-2022
مقالات مختارة
خالد أبو شقرا
خالد أبو شقرا
إضافة إلى جر لبنان إلى محور الشرق، فان دور الوسيط الذي لعبه إنتهى ربما إلى غير رجعة في ظل اقتصاد معولم. فلا العمق العربي بحاجة إلى مرفأ بيروت للحصول على السلع، ولا الشرق بحاجة إلى ممر ثقافي للتواصل مع الغرب، ولا الرساميل تضيع إن لم تستقر في البنوك اللبنانية. فالبقاء مكتوب للاقتصاديات المنفتحة على العالم التي لا تحد نفسها بقيود سياسية أو عقائدية أو حتى دينية، وتستطيع المنافسة بالعلم والتطور التقني وتقدم البنيتين التحتية والفوقية.
دور "حزب الله" مرة ثانية في غضون عقدين من الزمن، يتمّ إخراج لبنان من هذا الملعب الفسيح، ليوضع في قمقم محور الشرق. فسياسته محسوبة على حزب مصنف من ثلاثة أرباع الدول إرهابياً، في ظل اقتصاد صغير أعجز عن الصمود منفرداً. وفي المقابل بنى العدو الاسرائيلي إقتصاداً أقوى بما لا يقاس، وانطلق في علاقات استراتيجية مع الدول التي شكلت مكمن القوة للاقتصاد اللبناني. فتم توقيع الاتفاق الإبراهيمي بين اسرائيل وكل من الامارات والبحرين في العام 2020 ولحقتهما المغرب والسودان. ولم يعد لبنان حاجة لأحد بالمقارنة مع ما يمكن أن تقدمه اسرائيل من نظام مصرفي وتكنولوجيا وابحاث وعلاقات مع الغرب. الحياد خيار وحيد للإنقاذ أمام هذا الواقع لم يعد الحياد رفاهية، إنما حاجة اقتصادية ملحة، كوننا أعجز عن المواجهة. فـ"الاهتراء الاقتصادي لا يعود حصراً إلى سوس الفساد الذي نخر طويلاً في بنية المؤسسات، إنما لفقدان لبنان الدعم العربي"، برأي الخبير الاقتصادي د. أنيس بودياب. فـ"الفساد سمة رافقت تكوين الدولة اللبنانية منذ ما بعد الاستقلال. وكلنا نسمع عن السلطان سليم في عهد الرئيس بشارة الخوري. إلا أن التحول الكبير الذي يمكن الاستدلال عليه بأرقام ميزان المدفوعات حصل في العام 2011، عندما أسقط فريق 8 آذار وقتذاك حكومة سعد الحريري وهو في البيت الأبيض، مستنداً إلى تشريع اتفاق الدوحة في العام 2008 للثلث المعطل. واستمر هذا الفريق بتعطيل كل المشاريع الاصلاحية، بدءاً من باريس 3 الذي حصل في كانون الثاني من العام 2007، وصولاً إلى أخذ لبنان بعيداً عن العالم العربي. فبدأت وتيرة الاستثمارات الخليجية المباشرة التي كانت تقدر بـ 2 مليار دولار سنوياً بالتباطؤ في العام 2011، حتى توقفت كلياً في العام 2017. كما انقطعت العائدات من السياحة الخليجية التي كانت تشكل القسم الأكبر من المدخول السياحي، الذي وصل في العام 2010 إلى حدود 11 مليار دولار. وجرى عزل لبنان عن كافة تطورات المنطقة ولا سيما في ما يتعلق باتفاقيات الشراكة في القطاع النفطي والانابيب التي ستربط قبرص واليونان مع تركيا، فأصبحنا خارج إطار المنافسة". ومما زاد "الطين بلة"، برأي بودياب، كان "تفجير مرفأ بيروت في العام 2020، وانهيار القطاع المصرفي. وبازالتهما من المشهد، اكتمل مخطط ابعاد لبنان عن المنطقة. وقد تزامن الانهيار اللبناني مع توقيع دول عربية اتفاق سلام مع إسرائيل وتسارع التخلي عن لبنان أكثر وأكثر".
حتمية العودة الى الحضن العربي التعويل الدائم على الموارد البشرية اللبنانية في إعادة استنهاض نفسها لم يعد كافياً، فالحل الوحيد للخروج من الأزمة من وجهة نظر بودياب هو "حتمية عودة لبنان إلى الحضن العربي". فصحيح أن اسرائيل بدأت تستقطب جزءاً كبيراً من الاستثمارات والعلاقات التجارية مع الدول العربية، إلا أن التقارب الاجتماعي واللغوي بين لبنان وعمقه العربي يبقى خياراً غير متوفر إسرائيلياً. و"يكفي إعادة بناء المؤسسات بالشكل السليم والنهوض بالدولة والنأي بأنفسنا عن الصراعات، لاحداث خرق إيجابي في جدار الأزمة"، بحسب بودياب، "إذ من غير الوارد ذهاب لبنان إلى التطبيع، إلا من ضمن استراتيجية اتفاقية السلام العربي "الارض مقابل السلام" التي اقرتها القمة العربية في بيروت في العام 2002". وإذا كنا آخر دولة عربية قد توقع السلام بحكم الموقع الجغرافي، فان هذا لا يعني برأي بودياب أن "ندفع ثمن كل الصراعات في المنطقة والعالم". من هنا فان "سياسة النأي بالنفس أو الحياد الايجابي التي تعتبر أفضل فرصة للبنان لاستعادة لبنان دوره تبقى رهن الحس بالمسؤولية عند القادة، وقدرة الدولة على اتخاذ الخيار السليم في مواجهة الدويلة". ليس سيد نفسه على عكس الدول الخليجية وبعض الدول العربية، فان "لبنان ليس سيد نفسه ليأخذ القرارات التي تحقق مصالحه"، من وجهة نظر الخبير الاقتصادي د. إيلي يشوعي، فـ"المفهوم الأهم في بناء الدول هو أن يكون قرارها داخلياً وطنياً واحداً، وأن لا نكون أمام دويلات، كل دويلة مرتهنة بنفوذ دولة أخرى خارجية. وعليه يستحيل في ظل هذا الواقع بناء الدولة بالمفهوم العصري والحديث". إنطلاقاً من الظروف الحالية تصبح مصطلحات الحياد، والإبتعاد عن الصراعات، والنأي بالنفس عن المتغيرات الاقليمية بدون جدوى في ظل "عدم وجود لبنان واحد"، بحسب يشوعي، فهناك "لبنانات" داخل لبنان. وعلى الرغم من مساحة هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة وعدد السكان القليل، لا تجد في أرجاء المعمورة تركيبة متعددة من الحضارات والمذاهب والمكونات والارتهانات والارتباطات وعبدة المال كما في لبنان. وعليه سيبقى لبنان "الخاصرة الرخوة التي تتأثر بالاقليم وبكل ما حوله لانه ليس واحداً، وحكامه تقصدوا إبقاء مناعته الداخلية ضعيفة". و"أول مكونات المناعة هي المناعة الاقتصادية"، يكمل يشوعي، و"تتضمن اتكال لبنان إلى حد بعيد على نفسه، وطاقاته، وموارده، وانتاجه الداخلي. وأن يكون هذا الانتاج قابلاً للتصدير، لكي يؤمن للبنان نقداً صعباً كفيلاً بضمان استقرار العملة، وأن يوفر بذلك فرص العمل الضرورية للاجيال القادمة والمستقبلية، وأن يبني رأسمالاً عاماً وطنياً، وخدمات عامة، ومطارات ومرافئ ومعالجة النفايات والصرف الصحي والاعتناء بالبيئة والطرق والمواصلات والاتصالات والرأسمال العام، وأن تهتم الدولة بالرأسمال الخاص وألّا تفرط به". لسنا في بلد واحد "ولكن بما أننا لسنا في لبنان واحد، ولأن المسؤولين تيقّنوا من توفر حمايتين لهم، واحدة خارجية، والاخرى مذهبية داخلية، سمح الحكام لانفسهم بأن يرتكبوا ما ارتكبوه بحق لبنان واللبنانيين. وعلى هذا المنوال لن يصبح لبنان دولة، لا الآن، ولا بعد عام، ولا حتى بعد مئة عام. وستبقى المشاكل والازمات تتناسل من رحم هذا الوطن المريض".
هل يكون الحل بالفدرلة؟ الخبير في الشؤون الاقتصادية والمصرفية، الناشط السياسي إياد بستاني، يكمل من حيث توقف د. إيلي يشوعي. معتبراً أن "الحياد هو النتيجة الطبيعية للانتقال من النظام المركزي الذي أثبت فشله، إلى النظام الفدرالي. فطالما النظام قائم على معادلة سيطرة فئة على المركز تأخذ معها البلد وبقية المكونات بالطريق التي تناسبها، فلن ننجح في تحقيق الحياد والنأي بأنفسنا عن الصراعات، وتحقيق مصالحنا الاقتصادية. فمثل هذا النظام سيكون عرضة دائماً لجذب الصراعات الداخلية للسيطرة على المركز والإلتحاق بالخارج لأخذ البلد إلى حيث نشتهي أو ننتمي عقائدياً او سياسياً. فنجذب بذلك خصومة الافراد الباقين المتضررين من هذا التوجه". الفشل ليس وليد الساعة بل منذ 1926 وبرأي بستاني فان "فشل هذا النظام المركزي ليس وليد الساعة، إنما يعود إلى العام 1926. والبديل الفعال يكون باعتماد نظام فدرالي يسمح من ناحية لكل قومية من قوميات لبنان أن تعبر عن رأيها، ومن ناحية ثانية تخرج القرارات المصيرية التي تتعلق بمصير لبنان ومستقبله بالاجماع. ففي ظل النظام الفدرالي لا تؤخذ القرارات إلا بالاجماع ولا سيما الخارجية منها. ونكون حكماً نطبق نوعاً من الحياد، لان عدم الاتفاق يعني ببساطة عدم أخذ القرارات. في حين تؤخذ القرارات الداخلية حسب توجهات واقتناعات كل ولاية فدرالية". ومن وجهة نظره فان "مشكلة لبنان لا تتعلق بالحياد كمبدأ. فالحياد هو نتجية لخصومة داخلية. ونحن لدينا خصومة داخلية على هوية الملل أو القوميات اللبنانية، وتترجم بخصومات على السياسة الخارجية وتنعكس في النهاية على الاقتصاد". إذاً، "الحل بنظام جديد"، يختم بستاني. تتعدد الآراء وتبقى النتيجة واحدة، لا مجال للخروج من المأزق الاقتصادي في ظل نظام معولم، إلا بالانفتاح على الاقتصادات المتطورة والحديثة. فالانغلاق والتحالف مع الدول المتخلفة العاجزة عن حل مشاكلها الاقتصادية الداخلية، سيكون مصدراً لمشاكل وأزمات لا تنتهي. يتشرب اللبنانيون بمختلف أطيافهم المفاهيم التي رسمت صورة بلدهم منذ صغرهم. يكفي أن نسأل بشكل عشوائي عن ميزات لبنان، ليأتي الجواب بانه: سويسرا الشرق، صلة وصل بين الشرق والغرب، ومصرف الدول العربية، مستشفاها، جامعتها، مصيفها ومشتاها. مقومات ظاهرها جميل ببساطتها، وباطنها عبارة عن شبكة معقدة من المصالح الاقتصادية والمالية التي ربطت تاريخياً لبنان المنفتح، بعمقه العربي. ومع انغلاقه على نفسه، وتوريطه عمداً بصراع المحاور بعد العام 2004، بدأت الشبكة بالاهتراء، حتى "هرّت" في العام 2019.
أبرز الأخبار