10-03-2022
مقالات مختارة
خالد أبو شقرا
خالد أبو شقرا
الاستمرار في مقارعة "جدار" الأزمة النقدية بوسائل "المحاباة" التقليدية لمصرف لبنان، لن يفتح كوّة تكسر ظلام الإنهيار. يقال: "من جرّب المجرّب كان عقلو مخرّب"، فكيف إذا كانت تجربة الاستمرار في دعم سعر الصرف تقود إلى تدمير القدرة الشرائية، واستنزاف ما تبقّى من احتياطيات، والتهديد باستحالة الخروج من تحت خط الفقر للسواد الأعظم من المواطنين!.
مع الفشل الذريع الذي منيت به سياسة تثبيت سعر الصرف منذ العام 1997 على سعر 1507.5 ليرات مقابل الدولار، انتقل مصرف لبنان إلى سياسة "التعويم الموجّه لسعر الصرف" Managed Float . فأنشأ في نيسان 2020 "الوحدة" استناداً إلى التعميم 149، لم تلبث أن تطوّرت إلى منصة SAYRAFA. وقد هدف "المركزي" من وراء هذه الخطوة إلى التدخل عن طريق استخدام احتياطي العملات الأجنبية المتاحة لديه للتأثير على سعر الصرف ضمن هوامش معيّنة. إلّا أن التدخل المتقطع، المربوط بتزايد الصراخ الشعبي والسياسي من ارتفاع الدولار، أدّى إلى قفزات كمية ونوعية في سعر الصرف، حتى وصل في نهاية العام 2021 إلى حدود 33 ألف ليرة. عندها وسّع المركزي هامش التدخل، سامحاً لنفسه بضخ مئات ملايين الدولارات بواسطة التعميم 161 لإبقاء سعر الصرف بحدود 20 ألف ليرة. فشل التعويم الموجّه التعويم الموجّه الذي قام به المركزي كبديل عن تثبيت سعر الصرف، فشل. والسبب ليس ارتفاع سعر الصرف من 12 ألف ليرة عند بدء العمل بصيرفة، إلى حدود 20500 ليرة فقط، إنما أيضاً بسبب الخسارة الهائلة للاحتياطيات نتيجة التدخل، وعدم القدرة على مجاراة الطلب الهائل على الدولار ولا سيما مع انعكاسات الحرب الروسية على ارتفاع أسعار السلع والخدمات. ففي الأمس عاود سعر الصرف الارتفاع رغم التدخل الهائل، قافزاً فوق عتبة 22 ألف ليرة، وقد غذت هذا الإرتفاع أخبار، يشاع أن من يسوّقها هو مصرف لبنان بحدّ ذاته، عن وقف العمل بمنصّة صيرفة، كـ"اختبار ضغط" عن تخفيض الدعم أو حتى إمكانية وقف التدخل كلياً، رافقها وضع المصارف حدوداً لعمليات السحب والتحويل إلى الدولار. ليس حلاً توضح ورقة "الأزمة النقدية: تأثيرها على لبنان وأسبابها وسبل معالجتها"، الصادرة عن المعهد اللبناني لدراسات السوق "LIMS" أن سبب فشل تجربة سياسة التعويم الممسوك من المركزي مردّه إلى عدم توفر الشروط المسبقة لنجاح "التعويم الموجّه". فمعدّل الدولرة المرتفع، والفجوة النقدية في مصرف لبنان يحدّان من قدرته على توجيه سعر الصرف. الأمر الذي يعقّد نجاح التعويم الموجّه قبل معالجة الأزمة المصرفية. ومع ذلك، وحتّى لو تمّت معالجة الأزمة المصرفية، فهذا لا يضمن استقرار سعر الصرف بسبب العوامل التالية: - غياب استقلالية مصرف لبنان، أي عدم قدرته على رفض تمويل عجز الموازنة العامة. - استمرار الإنفاق العام من دون ضوابط . - حالة عدم الاستقرار التي يعانيها لبنان. في ظل غياب المعالجات الجدية للأزمة المصرفية، والعجز عن تأمين الاستقلالية النقدية والتوازن المالي، وتثبيت الاستقرارين الأمني والسياسي، سيجد مصرف لبنان نفسه مضطراً إلى تخفيض سعر الصرف بشكل متكرّر. مجلس النقد يضمن استقرار سعر الصرف الدوران في هذه الحلقة المفرغة من الدعم وفشل الدولة في السيطرة على عجزها، يعطيان انطباعاً عاماً باستحالة الخروج منها. إلا أن الورقة المقدمة من "المعهد"، والتي أتت كخلاصة للتوصيات والملاحظات التي عرضها خبراء اقتصاديون وأصحاب اختصاص في سلسلة من اللقاءات الحوارية، وجدت أن الحل الوحيد للسيطرة على الانهيار، والذي يعطي دفعاً جدياً للبدء بالإصلاحات، يتمثل في "صندوق تثبيت القطع" currency Board، المعروف أيضاً باسم "نظام مجلس النقد". إذ يلغي مجلس النقد السياسة النقدية ويغطّي الليرة بنسبة 100 في المئة بالدولار على سعر صرف ثابت، ما يحرر الليرة من جميع القيود. ويصدر مجلس النقد الليرة فقط عندما تطلبها السوق ويشتري الدولار مقابلها. ولا يحق له استعمال الدولار، المُحتَفظ به خارج لبنان، إلا حين يطلب حاملو الليرة استعادة دولاراتهم. ومع ثبات سعر الصرف وحرية حركة الليرة، تعود الشركات والمصارف إلى العمل الطبيعي، وتنخفض معدلات الفائدة وتعود التدفقات المالية مدعومة بهوامش الفائدة وتدنّي أسعار الأصول المحلية، فتنتعش القطاعات المنتجة. ولا يحتاج مجلس النقد إلى أي إصلاح مسبق، بل يمكنه إنهاء الأزمة النقدية في ظرف 30 يوماً. مخاوف ليست في مكانها المخاوف التي تثار حول "مجلس النقد" تتمحور بشكل أساسي حول وقف تمويل نفقات الدولة وعجوزاتها. الأمر الذي يؤدي إلى العجز عن تمويل رواتب النسبة الأكبر من الموظفين ووقف المساعدات. لكن ما يحصل فعلياً على أرض الواقع يكون مخالفاً كلياً لذلك. فثبات سعر الصرف في ظل "مجلس النقد" يوقف انهيار قيمة مداخيل الحكومة، كما أن عودة التدفقات ترفع إيراداتها. وتنخفض كلفة الدين العام مع انخفاض الفوائد، ما يساعد على إعادة الهيكلة والعودة إلى الأسواق المالية لتمويل العجز. أمّا بالنسبة إلى الرواتب وتمويل بقية نفقات القطاع العام عبر زيادة العرض النقدي بالليرة من مصرف لبنان فهما يؤدّيان إلى ارتفاع نسب التضخم والفقر ولا تنتج عنهما مكاسب حقيقية. وفي المقابل، يحقّق مجلس النقد الاستقرار النقدي، فيحمي قيمة الرواتب ويسمح بزيادات لا يلغيها التضخم. وعليه فإن التخلي عن السياسة النقدية، واعتماد مجلس النقد يسمحان للحكومة باستعادة القدرة على تمويل نفقاتها ومشاريعها الإنمائية ويحسّنان قيمة الأصول المحلية، كما يكسبان الحكام شعبية وموارد أكبر جرّاء إدارتهم بلداً نظامه الاقتصادي أقرب إلى هونغ كونغ منه إلى فنزويلا. وعلى عكس الصرف المثبَّت، لا يمكن لمجلس النقد القيام بسياسة نقدية كتمويل العجز والهندسات المالية ما يمنع تكرار الأزمة. وفي حال خروج الرساميل، تنخفض كمية الليرة تلقائياً، ما يحافظ على ثبات الصرف. اليوم أكثر من أي وقت مضى ترى الورقة الصادرة عن "المعهد اللبناني لدراسات السوق" أنه يتوجب على السلطة السياسية إنشاء هذا المجلس وتعيين أعضائه. وقد ساعد البروفيسور ستيف هانكي في وضع مجموعة ضوابط تضمن حسن إدارة مجلس النقد، مثل تعيين ممثلين عن صندوق النقد الدولي وعن مؤسسات دولية ضمن أعضائه وإنشائه خارج البلاد، في سويسرا مثلاً، فيكون خاضعاً لقوانينها.
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار