30-12-2021
محليات
فارس خشان
فارس خشان
يستحق المحقّق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار أن يكون، بلا منازع، رجل العام 2021، لأنّه جسّد أمثولة لبنانية تستحق أن يقف الجميع أمامها: صمد وحيداً، في يمناه القلم وفي يسراه كتاب القانون، يواجه أعتى أنواع الترهيب وأسوأ صنوف الدعايات، ولم يتنحَّ أو ينحنِ.
لم يصدّقه أحد، حين قال، بعيد تعيينه، في شباط (فبراير) الأخير، محققاً عدلياً في واحدة من أخطر الجرائم التي استهدفت لبنان: "سأذهب إلى حيث يقودني القانون والحق. لن يوقفني شيء. لا أعرف إلى أين سيقودني التحقيق، لكنّني لن أتركه ينحرف".
حسب كثيرون كلامه هذا كلاماً عابراً، مثله مثل القسم الذي يتلوه كثيرون عند تقلّدهم مناصبهم، إذ سرعان ما يضعونه على "رف النسيان"، ويذهبون الى حيث تقودهم عواطفهم وأهواؤهم ومصالحهم وسلامتهم.
ولكن المحقق البيطار خيّب ظنون الجميع: لم ينسَ حرفاً واحداً من كلامه، بل التزم به التزاماً صارماً.
عندما بدأ اتّخاذ قراراته التحقيقية، وحّد ضدّه الطبقة الحاكمة والقوى السياسية المؤيّدة لها، لأنّه ذهب الى حيث يقوده التحقيق، فمسّ بحصاناتها، وأفهمها أنّ معه لا الأقوياء ولا المستقوون بهم يمكنهم أن يفلتوا من المساءلة وتالياً من العقاب.
لم يتردّد في كشف الطبقة الحاكمة أمام الرأي العام عموماً، وأمام الضحايا خصوصاً. هو لا يملك في مطاردتها سوى القلم الذي في يمينه والكتاب الذي في يساره، في حين أنّها هي تملك كل عناصر القوة: الأجهزة، المؤسسات، المخصصات، الأزلام، المصالح، الأطماع، المنابر والترهيب.
حاولت هذه الطبقة الحاكمة التي وجدت نفسها ملاحقة ووجدت أقوى رجالاتها في أهم المواقع الأمنية مطاردين، ردع هذا القاضي الأعزل: حاولت استمالته بالترغيب، سعت إلى شلّ يديه بالمراجعات التسويفية، لم تتوانَ عن محاولة اغتياله معنوياً فنسبته الى سفارات ونعتته بالعمالة، قبل أن يدخل "حزب الله" بسمعته الترهيبية المعروفة، على الخط، ويتعهّد باقتلاعه.
ولكن كل ذلك لم يدفع البيطار الى الانحراف عن الهدف الذي يقوده إليه "الحق والقانون"، فارتفع مستوى المواجهة إلى أقصاه.
افتعل "حزب الله" ومعه "حركة أمل" حرباً أهلية مصغّرة في الطيّونة، ليحمّلوه، لاحقاً، مسؤوليتها. أدخل هذا الثنائي مجلس الوزراء في غيبوبة، ولم يكن قد مضى على بدء أعمال الحكومة شهر واحد، وطالب، في مقابل إعادة ضخّ الحياة فيه، أن يقدّم له رأس البيطار على "طبق من فضّة".
لم يجرؤ أحد على أن يشارك "الثنائي الشيعي" في قطع رأس المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، لأنّ طارق البيطار، ثبّت نفسه معادلة صعبة، فهو، في الداخل اللبناني كما في مراكز القرار الدولية المعنية بلبنان، لم يعد ورقة في "مهب الريح"، بل أضحى رمزاً بارزاً وفريداً لما خسره لبنان، منذ سنوات طويلة: الحقيقة والعدالة والجرأة.
في دولة وضعها مثل وضع لبنان، ليس تفصيلاً مهملاً أو عادياً أن تجد قاضياً يقف منتصب القامة في مواجهة "حزب الله" الذي يستضعف جميع القامات ويخضعها ويفرض عليها شروطه.
لم يقتصر "خطر" طارق البيطار على "حزب الله" والطبقة الحاكمة على أمثولة صموده في منع الانحراف، بل أوجد تيّاراً قضائياً عارماً يشبهه ويقف معه ويمنع الظلم عنه ويناصره ويدعمه ويحميه.
تلمّسُ اللبنانيين لوجود هذا "التيّار القضائي" الذي طالما حلم به، جعل الطبقة السياسية عموماً و"حزب الله" خصوصاً يوسّع دائرة مطالبه، فهو لم يعد يكفيه رأس البيطار، بل بات يطالب برؤوس قضاة كثر، يتقدّمهم رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبّود الذي كان قد سجّل، بإصراره وزملاءه، على معاييرهم في التشكيلات القضائية، وقفة غير مسبوقة في وجه رئيس الجمهورية ميشال عون الذي كان يريد تشكيلات قضائية على قياس مصالحه ومصالح حزبه السياسي بقيادة صهره جبران باسيل.
وكادت هذه الرغبة تتحقّق قبل أسبوع واحد، حين جرى العمل في الكواليس السياسية، بين أركان السلطة الحاكمة، على عقد صفقة تقوم على المعادلة الآتية: تقبل "الأقنعة" التي كوّن منها السياسيون المجلس الدستوري مراجعة الطعن المقدّمة من "التيار الوطني الحر" في مقابل كف يد المحقق طارق البيطار عن ملاحقة السياسيين.
لكنّ الصفقة فشلت، لأنّ "حزب الله" لا يريد كف يد البيطار عن ملاحقة السياسيين، بل "تطييره" من منصبه، بالكامل، الأمر الذي يستدعي أن يتراجع مجلس الوزراء عن إحالة ملف انفجار مرفأ بيروت على المجلس العدلي.
ولـ"حزب الله" أسبابه، فهو لا يخشى من البيطار على "حلفائه السياسيين"، بل على شخصيات وأشخاص يرتبطون به، وهم غير مشمولين بصلاحيات "المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء"، إذ إنّ المحقق العدلي، كما تؤكّد المصادر وتجزم المعلومات، يصرّ على التحقيق في دور "ظاهر" لـ"حزب الله" في انفجار مرفأ بيروت.
الحرب على البيطار لن تتوقّف. العكس هو الصحيح، فهي قد تشهد تصعيداً كبيراً، مثلها مثل الحرب التي تستهدف اللبنانيين ووطنهم، ولكنّ هذا لا يعفي من أنّ صمود البيطار دخل إلى كتاب التاريخ الذي يتجاوز حدود لبنان: رجل واحد استطاع، بما يملك من جرأة وتصميم، أن يواجه طبقة حاكمة يقودها حزب مسلّح حتى أسنانه، ويملك سجلاً ترهيبياً جديراً بقوى عصور الظلام.
في طارق البيطار يتجسّد قول نيلسون مانديلا: "الشجاع ليس هو الشخص الذي لا يشعر بالخوف، بل هو الشخص الذي ينتصر على مخاوفه".
أمّا في مطاردي المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت المأساوي، فيكتمل قول أحمد شوقي: "(...) وأرى في الجريء على الشرور جباناً
أخبار ذات صلة