03-10-2021
محليات
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة، قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد الإنجيل، قال في عظته: “نص إنجيل اليوم هو جزء من موعظة المسيح على الجبل، كما دونها الإنجيلي لوقا. تعليم المسيح كله مكثف فيها، لا بل هو نواتها. المسيح الرب الخالق يعرف قدراتنا جيدا، لذا عندما أعطانا الوصايا، لم يوص بما لا علاقة له بطبيعتنا. تعليمه يوافق طبيعتنا، لأنه جبلنا وفقا لهذا التعليم الذي سوف يعطينا إياه. إذا، وصايا المسيح مغروسة في الإنسان بالفطرة، وهذا ما يقوله لنا القديس يعقوب أخو الرب بوضوح في رسالته: إقبلوا بوداعة الكلمة المغروسة، القادرة أن تخلص نفوسكم (يع 1: 21). الكلمة مغروسة، لكن ينبغي أن نقبلها عن طريق التعليم، لأننا نجهل طبيعتنا. الحاجة إلى وجود تعليم شفهي أو كتابي ليست سوى دليل على تغربنا وتشتتنا الداخلي. لقد وضع الله المعرفة العملية في طبيعتنا، وكتب شرائعه في أذهاننا. مشيئته هي التي أتت بنا إلى الوجود، وهي التي تحفظنا فيه. لكننا نجهل عادة كيف يريدنا الله أن نعيش الحياة التي أعطانا. إذا، كلمة المسيح مغروسة في طبيعة الإنسان، لكن يبدو أن إدراك معناها يفوق الطاقات البشرية، والإقتداء بها يأتي بعد جهاد، وزمن حياتنا هو الفرصة المعطاة لنا لنبدأ بهذه المحاولات للاقتداء بوصايا الله. إنها مسيرة دامية وسهلة معا، هي الطريق الضيقة المحزنة، لكنها حمل خفيف أيضا”.
أضاف: “قراءة إنجيل اليوم تصف سهولة الوصايا: كما تريدون أن يفعل الناس بكم، إفعلوا أنتم أيضا بهم هكذا (لو 6: 31). في هذه القاعدة، يكثف المسيح تعليمه كله عن علاقتنا بالآخرين. يشير في الوقت عينه إلى أن وصاياه ليست مغروسة فينا وحسب، بل هي عادلة وسهلة ونافعة ومفهومة من جميع الناس. إنها عادلة لأنها تفترض المقاييس عينها في أفعالنا الخاصة وفي أفعال الآخرين، وسهلة الفهم لأننا نفهم جيدا حقوقنا ونعرف ما نطلبه من الآخرين بدقة. الأمر الوحيد الذي تطلبه الوصايا منا هو إعطاء الآخرين ما نريده ونطلبه لنفوسنا. تذكروا دوما قول الرب في إنجيل اليوم: كما تريدون أن يفعل الناس بكم، كذلك إفعلوا أنتم بهم. هذه الآية هي خلاصة العدالة بين البشر: ما تطلبه لنفسك أعطه لغيرك، وما تمنعه عن نفسك أو ما ترفضه لنفسك عليك أن لا تقبل به للآخرين. فإن كنت تبغي الطمأنينة لنفسك ولأولادك، وإن كنت تطمح إلى الحرية والأمان والراحة والعدالة وترفض الظلم والذل والإستعباد والتعدي، كيف تقبل بها لغيرك أو تكون مسببا لها؟”
وتابع: “هنا لا بد من التوقف بحزن وأسف عند ما يحصل في قضية تفجير المرفأ ومحاولة طمس الحقيقة بعرقلة التحقيق وترهيب القاضي المحقق. إن تاريخ 4 آب هو عنوان مأساة أهل بيروت ورمز للألم والموت. فهل ممنوع عليهم وعلى اللبنانيين معرفة حقيقة ما حصل لهم؟ أليس من واجبنا جميعا، مسؤولين ومواطنين، ملاحقة الحقيقة، والمطالبة بها، والمساعدة على الوصول إليها وكشفها؟ ألا يخجل من نفسه ومن أولاده من يتهرب من التحقيق؟ أليس هذا التصرف إدانة له؟ فإن كان يحافظ على كرامته ألا يفكر بكرامة من مات ضحية هذه الجريمة؟ وبوالديه وأهله؟ وإن كان يرفض الظلم والإهانة فكيف يرضاهما لمن أصيب في جسده أو في بيته وأصبح معاقا أو شريدا؟ إن لم تتحقق العدالة ويحكم القانون لن تكون دولة. وطالما هناك مقاييس مختلفة لن تكون عدالة. وطالما هناك من يتحكم بمقدرات البلد لن تستوي الأمور. ما أقوله ليس تماهيا مع خطابات المزايدة الشعبوية كما يحلو للبعض أن يظن، بل هو تطبيق لقول الرب الذي سمعناه في إنجيل اليوم. لكننا أصبحنا في زمن خفت فيه صوت الضمير، لا بل ماتت بعض الضمائر وامحت المحبة والإنسانية والرحمة. يوصينا الرب في إنجيل اليوم قائلا: كونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم، فأين مسؤولونا من الرحمة؟ لا تنسوا أن الله قاض عادل (مز 7: 11)، فإن أسكتم كل قضاة الأرض، كيف يمكنكم أن تسكتوا الله أو تمنعوه من إحقاق الحق وبسط العدالة؟ إرفعوا أيديكم عن القضاء، دعوا الحقيقة تظهر، وإن كنتم أبرياء كما تدعون فطوبى لكم، إن كنتم تبحثون عن حقكم من يعطي المواطن حقه؟ أتركوا القضاء يقوم بعمله وعلى الجميع أن يقبلوا بالعدالة”.
وقال: “لا شك في أن المنطق يقنعنا بسهولة تطبيق الوصايا، لكن الواقع يدل على العكس، إذ يبدو أن حفظها يتطلب غصبا. يقول الرب يسوع، الذي دلنا اليوم على سهولة وصاياه، إن ملكوته يغصب والغاصبون يختطفونه (متى 11: 12). ملكوت السماوات هو ملكوت المحبة، التي هي كمال الناموس، هو الملكوت الذي يقيم في الناس، أي في داخلكم (لو 17: 21)، لكنه يظهر حضوره بالفضائل التي تكتسبها النفس. الغصب هو باب الملكوت، به نعبر إلى المحبة. هذا يعني أن المحبة تتطلب القسوة وعدم الشفقة على حب الذات، على أنانيتنا. تتطلب توبتنا وكرهنا للخطيئة. عندما يسمع بعض الناس قول الرب كما تريدون أن يفعل الناس بكم إفعلوا أنتم أيضا بهم هكذا، يظنون أن المطلوب يطبق فقط في نطاق دائرة الأصدقاء الضيق. يعطون وينالون بالتساوي، يحبون ويحبون، لكن الخطأة يفعلون هذا أيضا يقول الرب. إن التقيد بالقاعدة الذهبية ضمن دائرة الناس الذين ليست لدينا مشكلة معهم، لا يعتقنا من الخطيئة، لا يخلصنا. يكمن الخلاص في الخروج من الدوائر الضيقة لذوي الآراء المتشابهة، ولا يرتبط تطبيق الوصايا بنوعية الناس الذين نتصل بهم. طبعا، هذا لا يعني أننا لا نحتاج إلى دائرتنا الضيقة التي تريحنا وتشددنا في الإيمان، لكن يجب ألا يختلف تطبيق وصايا المسيح في دائرتنا عما هو خارجها”.
أضاف: “الرغبة في أن يحبنا الآخرون، من دون أن ننمي بذار المحبة في قلوبنا، هي نتيجة مرض روحي. وقد يحدث مرارا كثيرة أن نحسن إلى الآخرين، لا بدافع المحبة المنزهة عن المصلحة الشخصية، بل رغبة بمحبتهم. غير أن المحبة الحقيقية لا تتماشى والمصلحة، ولا تضع شروطا، ولا تنظر إلى المحسن إليه هل هو صالح أو شرير. المحبة لا تقرض مرتجية أن تنال ما يساوي القرض، بل تظهر دون أن تنتظر أو تطلب مقابلا. هذه المحبة دليل الصحة النفسية التي اكتسبت من خلال غصب الذات، في جهاد نفسي وجسدي يحمل الصليب كصفة رئيسية. المحبة الحقيقية مجانية على غرار محبة المسيح الذي صلب ومات وقام من أجل خلاص البشر، وقد سامح صالبيه قائلا: يا أبتاه، أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون (لو 23: 34). يقول بولس الرسول: المحبة تتأنى وترفق، المحبة لا تحسد، المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ، ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق (1 كو 13: 4-6). هذه المحبة هي ثمرة الفضيلة ويلزمنا جهاد كبير لكي نكتسبها، وتضحية عظيمة، إذ يتوجب علينا تخطي الأنا وحب الذات للوصول إليها”.
وتابع: “كونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم. بهذه الآية ينتهي إنجيل اليوم، وهي تتويج لما سبقها من آيات لأنها تختصر كل الطرق التي طلب منا الرب سلوكها في علاقاتنا مع الإنسان الآخر. إنها وصية عظيمة فيها شرف كبير لنا، نحن الخطأة، بأن نتشبه بالآب السماوي الذي منحنا أن نكون أبناء له بالتبني، طالبا منا أن نشبهه بالرحمة، ما يعني أننا لا يمكن أن نتشبه بالله إن لم نكن رحماء. إن عدالة الله لا تشبه عدالة البشر التي تطلب الموت للقاتل والسجن للسارق والعقاب للمذنب. الله يعلمنا أن نحب أعداءنا ونبارك لاعنينا وأن نحسن ونقرض غير مؤملين شيئا. يعلمنا أن نحب بلا حدود، وأن نسامح بلا شرط، وأن نضحي بلا حساب. التشبه بالله إذا يقتضي منا تعلم الرحمة الإلهية. والرحمة والرأفة ليستا مجرد مشاعر تجاه الآخرين، بل هي أعمال ملموسة تبدأ بالصلاة من أجل الآخر، وتستمر بمساعدته، واحتمال إساءته، والصبر على زلاته وعدم إدانته، وتنتهي بالتواضع، لأن المتواضع ينظر إلى خطاياه فلا يعود يهتم بخطايا الآخرين. عندها فقط يصبح الإنسان وديعا ورحوما. وعندما يبلغ هذه الحالة يرحمه الله القائل: لا تدينوا لكي لا تدانوا لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم (متى 7: 1-2)”.
وأردف، “لذلك، علينا أن ننمو من خلال كلمة الرب المغروسة فينا منذ الخلق، أن نحب الجميع بلا مقابل، ونرحم الجميع، أن نتخذ الرب مثالا لنا في المحبة حتى الموت. لم يكن الجميع مستحقا لأن يبذل المسيح نفسه عنهم، لكن محبته الواسعة ظهرت في محبته الجميع بلا تمييز. علينا أن نتعلم منه، وأن نكون مثالا للمسيحي الحقيقي، المحب والرحوم، الذي يشهد للحق دون مساومة، لكي يتمجد اسم الرب من خلالنا”.
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار