23-11-2020
مقالات مختارة
القلّة التي كانت تتمسك بأمل الوصول إلى أي خرق في نظام الفساد من خلال التدقيق الجنائي، منيت بخيبة إضافية أمس. المنظومة التي أوصلت البلد إلى الانهيار، ورياض سلامة عمودها الفقري، عصيّة على الكسر. تجربة التدقيق الجنائي أعادت تأكيد المؤكد. أما فرضية أن الانهيار والفقر ووجع الناس ستجعل العصابة تلين، فتلك أثبتت فشلها أيضاً.
بعدما استخف سلامة بقرار الحكومة التعاقد مع شركة «ألفاريز أند مارسال»، وأحبطه عبر رفضه التعاون مع الشركة، سرت محاولات خجولة لإبقاء التدقيق الجنائي على قيد الحياة. بعد انتهاء المهلة المحدّدة لتسلّم المستندات كان يمكن لــ«ألفاريز» أن تنسحب، لكنها وافقت على اقتراح تمديد المهلة ثلاثة أشهر جديدة. تلك الفترة اعتبرها البعض الفرصة الأخيرة لإنقاذ التدقيق، وبالتالي إنقاذ الفرصة الوحيدة المتاحة لمعرفة مصير أموال المودعين ومعرفة اللصوص الذين سرقوا مدخرات الناس. الخيارات كانت محدودة بعدما أشهر سلامة تمرّده على قرار رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، معتمداً على كتل سياسية وازنة داخل الحكومة وخارجها، في مقدمها تيار المستقبل وحركة أمل والحزب الاشتراكي. ولأنه تمسك بحجة أن السرية المصرفية والمهنية تمنعه من تسليم ما يزيد على 50 في المئة من المعلومات المطلوبة من الشركة، لم يكن أمام المصرّين على التدقيق الجنائي سوى اللجوء إلى قانون يلزمه التعاون مع أي مسعى للتدقيق. لكن الخطوة التي كانت منتظرة من تيار رئيس الجمهورية، تأخرت بشكل غير مبرر، فأتت من خصومه. إذ قام حزب القوات بخطوة لافتة أعلن فيها تقديم اقتراح قانون لتعليق العمل بقانون سرية المصارف لمدة سنة في كل ما يتعلق بعمليات التدقيق الجنائي. وبشكل لا لبس فيه، أكد النائب جورج عدوان رفض تذرّع سلامة بالسرية المصرفية لإخفاء الأرقام الحقيقية.
أمس، حتى تلك المحاولة تمكن سلامة من إحباطها. كالضربة القاضية، عند الساعة العاشرة صباحاً، وصل كتاب من «ألفاريز» إلى وزارة المالية تعلن فيه إنهاء الاتفاقية الموقّعة مع الوزارة للتدقيق المحاسبي الجنائي بالنظر إلى «عدم حصول الشركة على المعلومات والمستندات المطلوبة للمباشرة بتنفيذ مهمتها، وعدم تيقّنها من التوصل الى هكذا معلومات حتى ولو أعطيت لها فترة ثلاثة أشهر إضافية لتسليم المستندات المطلوبة للتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان».
ماذا كان يفعل ممثل «ألفاريز» في بيروت وهل تعرّضت الشركة لضغوط داخلية وخارجية؟
بحسب المعلومات، لم يكن أحد في الوزارة على علم مسبق بمضمون هذا الكتاب. كما أنه ليس واضحاً لماذا قررت الشركة الافتراض مسبقاً أن فترة الثلاثة أشهر لن تغيّر شيئاً في قرار مصرف لبنان. اللافت أن انتظار الشركة ثلاثة أشهر إضافية لم يكن ليكبّدها أي تكاليف إضافية، بل على العكس كان سيُعزّز فُرصها لتنفيذ العقد، وبالتالي الحصول على ٢,١ مليون دولار، بدلاً من الحصول على ١٥٠ ألف دولار، في حال إنهاء الاتفاقية «بسبب عدم قدرتها على اتخاذ قرار بدء العمل نتيجة لقصور إتاحة المعلومات».
مصادر الوزارة كانت حريصة على التأكيد أنها لم تدفع للشركة أي ليرة حتى اليوم، انطلاقاً من أن العقد ينص على أن الدفعة الأولى والمقدّرة بـ ٤٠ في المئة من قيمة العقد، يُفترض أن تسدد مع بدء مهلة العشرة أسابيع المخصصة لعمل الشركة.
اللافت أن المعنيين في وزارة المالية كانوا على تواصل شبه يومي مع ممثلي الشركة، من دون أن يتم إبلاغهم بأي توجّه لإنهاء العقد. كذلك، ترافقت هذه الخطوة مع تناقل معلومات عن وجود ممثل الشركة الأميركية في لبنان منذ بضعة أيام، من دون أن تعرف الغاية من هذه الزيارة التي تمّت بعيداً عن الأنظار، ولم تتضمّن لقاءً مع وزير المالية. تلك المعلومات المتداولة جعلت أكثر من طرف يتساءل عن ضغوط سياسية، خارجية وداخلية، دفعت الشركة إلى الانسحاب. إذ إن هذه الخطوة تعني عملياً عرقلة الخطوات التي كانت تحضّر لمواجهة تمرّد سلامة، والتي كان محورها المجلس النيابي. فبغضّ النظر عن فرضية تكتل داعمي سلامة من النواب لعرقلة إمرار القانون بحجة «مواجهة الأهداف السياسية التي تقف خلفه»، إلا أن هكذا خطوة كانت لتفضح حزب المصرف أمام الناس، وبالتالي فإن احتمال إمرار القانون لم يكن معدوماً. لكن مع إسقاط عقد التدقيق، تصبح الأمور أكثر تعقيداً، وخاصة في ظل حكومة تصريف أعمال، غير قادرة على توقيع عقد جديد مع شركة جديدة. أما في حال تأليف حكومة جديدة، فمن البديهي الافتراض أن توقيع أي عقد مشابه سيكون شبه مستحيل، في ظل رئاسة الحكومة من قبل الشريك الأول لسلامة.
المسألة تعقدت إلى درجة لا يمكن التنبؤ بتداعياتها. لكن رئيس الجمهورية أوضح لوزير المالية الذي زاره أمس لإطلاعه على قرار «ألفاريز» أن ذلك «يستوجب حتماً اتخاذ التدابير الملائمة التي تقتضيها مصلحة لبنان». وفيما لم يتضح بعد ما هي التدابير التي يمكن أخذها، تردد أن الرئيس ميشال عون قد يطلب إعادة التفاوض مع الشركة لحثها على التراجع عن قرارها، وخاصة أن توقف التدقيق الجنائي يمكن أن يقود إلى تداعيات أكثر خطورة. فالتدقيق هو أحد شروط المبادرة الفرنسية، وهو كذلك من متطلبات صندوق النقد الدولي. وفي الحالتين إسقاط التدقيق في حسابات مصرف لبنان سيضع المساعدات الدولية المفترضة، بما فيها تلك المقرّة في مؤتمر سيدر، في مهب الريح.
الرئيس حسان دياب كان الأكثر وضوحاً في تعبيره عن الأزمة التي وصل إليها البلد. وهو قال في تغريدة أمس: «جدار الفساد سميك جداً ومرتفع جداً أمام الإصلاح. سنبقى نحاول حتى نهدم هذا الجدار الذي يصادر آمال اللبنانيين بدولة تنتصر على الفساد. نحن نعلم أن منظومة الفساد لن تستسلم بسهولة، ونعلم أن هذه المنظومة ستقاتل بشراسة لحماية نفسها، لكنني على يقين أن هذه المنظومة ستسقط في النهاية. اليوم أحبطوا التدقيق الجنائي. ربح الفساد جولة جديدة. لن نستسلم لليأس. لا بد أن تنتصر إرادة اللبنانيين».
أخبار ذات صلة
قضاء وقدر
إليكم آخر مستجدات قضية سلامة !
أبرز الأخبار