18-10-2020
محليات
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده قداس الاحد في كاتدرائية مار جاورجيوس في وسط بيروت، وألقى عظة قال فيها: "باسم الآب والابن والروح القدس، آمين. يا أحبة، كلام الرب يسوع في إنجيل اليوم، يعلن أن كل مسيحي هو سفير للمسيح ولله الآب، يحمل الكلمة الإلهية إلى الآخرين. كل من يسمع من السفير كأنه يسمع منْ مرسله، ومن يرفض الرسالة ويرذلها كأنه يرذل المرسل. يسبق إنجيل اليوم كلام قاس للرب يسوع يقول فيه: "أية مدينة دخلتموها ولمْ يقبلوكم، فاخرجوا منْ شوارعها وقولوا: حتى الغبار الذي لصق بنا منْ مدينتكم ننفضه لكم، ولكن اعلموا هذا، أنه قد اقترب منكم ملكوت الله" (لو 10: 10-11). السلطة التي أعطاها الرب لتلاميذه، ولكل من دعي باسمه، هي سلطة الكلمة، سلطة الرسالة التي تنص على اقتراب ملكوت الله. فمنْ رفض الرسالة يكون قدْ رفض الملكوت. ودعوة كل مسيحي، أنْ يدعو الجميع إلى مائدة الملكوت، التي قال الرب إن المدعوين إليها كثيرون، لكن المختارين قليلون (مت 22: 14).
إلا أن البشر مجربون دوما بالكبرياء. فالرسل، الذين هم من البشر، سكروا بالسلطة التي منحهم إياها الرب وفرحوا. نسمع في إنجيل اليوم: "فرجع السبعون بفرح قائلين: يا رب، إن الشياطين أيضا تخضع لنا باسمك". لقد اعترفوا من دون أن يدروا، بأن السلطة هي لاسم الرب يسوع، والشياطين لا تخضع لهم لشخصهم، بلْ لأنهم يذكرون اسم الرب، إلا أن التلاميذ فرحوا لأنهم ظنوا أن الأمر نابع منهم. لذلك حذرهم الرب قائلا: "إني رأيت الشيطان ساقطا من السماء كالبرق". أراد الرب يسوع تذكير تلاميذه بأن سقوط الشيطان كان بسبب كبريائه، وبسبب أنه ظن نفسه أهم منْ سائر المخلوقات. إلا أن سفر أيوب النبي يرينا الشيطان عاجزا عن اتخاذ قرار منْ دون إذن الرب. كما أن سليمان الحكيم يحذر أصحاب السلطة قائلا: "وأنتم أيها الملوك، فاسمعوا وتعقلوا، ويا قضاة أقاصي الأرض اتعظوا. أصغوا أيها المتسلطون على الجماهير، والمفتخرون بجموع أممكم، لإن سلطانكم من الرب، وقدرتكم من العلي، وهو الذي سيفحص أعمالكم، ويستقصي نياتكم. فإنكم أنتم الخادمين لملكه لمْ تحكموا حكْم الحق، ولمْ تحفظوا الشريعة، ولم تسيروا بحسب مشيئة الله. فسيطلع عليكم مطلعا مخيفا وسريعا، لأن حكما لا يشفق يجرى على الوجهاء. فإن الصغير أهل للرحمة، أما أرباب القوة فبقوة يفحصون. وسيد الجميع لا يتراجع أمام أحد، ولا يهاب العظمة، لأن الصغير والكبير هو صنعهما، وهو يعتني بالجميع على السواء" (حك 6: 2-8).
يا أحبة، الكل مجرب بالسلطة، لكن من وضع المسيح نصب عينيه لا يمكنه إلا أنْ يستخدم سلطته في سبيل الخير العام. لقدْ منح الرب كل إنسان موهبة خصه بها، وهذه المواهب تعطي أصحابها سلطة على الآخرين بشكل من الأشكال، لذا يحذر الرب تلاميذه قائلا: "ها أنا أعطيكم سلطانا أن تدوسوا الحيات والعقارب وقوة العدو كلها، ولا يضركم شيء. لكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم، بل بالأحرى افرحوا بأن أسماءكم كتبت في السماوات". يعلمنا الرب يسوع ألا نفرح بالمواهب بذاتها، بل بأننا نلنا نعمة منْ لدن العلي. الموهبة تقود إلى الكبرياء إنْ لم ترافقْها توبة دائمة، وتواضع دائم، وحياة دائمة مع الله.
وفيما يفرح التلاميذ بالموهبة التي منحهم إياها الرب، نسمع في إنجيل اليوم أن المسيح تهلل بالروح، وهذا هو الموضع الوحيد في الإنجيل الذي نرى فيه المسيح يسوع قد تهلل. لم يكن فرح الرب جسديا، بل كان ابتهاجا روحيا برؤيته الشيطان منهزما تحت أقدام المخلصين. دحْر الشيطان يأتي عن طريق الاعتراف بتوبة صادقة، ومن خلال نبذ الجسديات والماديات واتباع الكلمة الإلهية نحو الملكوت السماوي. هذا الملكوت ليس لمن يعتبر نفسه حكيما وفهيما وعاقلا، بلْ هو للأطفال. يقول الرسول بولس: "أين الحكيم؟ أين الكاتب؟ أين مباحث هذا الدهر؟ ألم يجهل الله حكمة هذا العالم؟" (1كو 1: 20). ويخبرنا الرب نفسه أننا لن نرث الملكوت ما لم نعد كالأطفال (مت 18: 3). من يقبل المسيح ببساطة قلب، ويرتمي في حضن الآب كالطفل، هذا يدخل به المسيح إلى الملكوت السماوي، أما المعتدون بمعرفتهم وفهمهم فلا يتركون مجالا للحكمة الإلهية أن تعلمهم ما المرْضي لدى الرب.
أحبائي، السلطة الوحيدة في المسيحية هي سلطة المحبة. عندما نسلط المسيح على حياتنا نضع أنفسنا تحت سلطة المحبة الحقيقية التي لا تخالطها مصلحة، المحبة الصادرة عن قلب طاهر وضمير حي وإيمان لا رياء فيه (1تيم1: 5). أما عندما نضع أنفسنا تحت سلطة الشيطان، أو سلطة شهواتنا ومصالحنا وأحزابنا وقبائلنا أو أي من الزعماء الأرضيين، فإننا نضع نيرا على ظهرنا سيحنينا إلى الأرض ويذلنا. نسمع كلاما كثيرا ضد المسيح والكنيسة، فلا ينهز كيان الكثيرين، لكن عندما تسمع كلمة واحدة عنْ زعيم أولئك الكثيرين، تمتلئ الشوارع بالمحتجين والمنددين وقطاع الطرق. منذ عام، فرحْنا واليوم نفرح ببدء تشكل الوعي الوطني الصادق الذي يرفض التبعية والإستزلام، ويفضح الفساد وسوء الحكم والإدارة، وينشد الدولة العادلة، دولة القانون والمؤسسات. لكن هذا الفرح يتلاشى مع عودة الروح الطائفية والقبلية والحزبية. لقدْ أثبتنا أننا لا نزال شعبا يحتاج الكثير من الوعي والحرية. هل فوتْنا فرصة صنع التغيير؟ لقد نسي اللبناني الله، وأله أشخاصا مائتين ومميتين، لكنهم لم يكونوا على قدر كاف من المسؤولية للحفاظ على لبنان الرسالة الذي يتغنى به الجميع. وماذا بقي من تلك الرسالة، رسالة التسامح والأخوة والمحبة وقبول الآخر واحترام رأيه ومعتقده وحريته؟ نحن نعيش في فساد سياسي وأخلاقي يقودنا إلى موت حتمي. ألا تثبت المماطلة في اتخاذ القرارات المهمة أن دولتنا مائتة ومميتة في آن؟ لم كل هذا التردد والتأجيل في تشكيل حكومة تنقذ الوطن الجريح والشعب الكسيح؟ لم كل تلك الإجراءات الخانقة والعراقيل الواهية؟ لم لا نطبق الدستور وننفذ بنوده دون اجتهاد أو تحريف؟ هل بسبب عبادة الأنا؟
ما زال اللبنانيون يصفقون للزعماء الذين يهدرون مستقبلهم ومستقبل أولادهم، ويضيعون الفرصة تلو الأخرى لإنقاذ البلد، ولا يهتمون للوقت الذي يمر، ويجر وراءه ما تبقى من أمل في انتشال البلد من الحضيض، متمسكين بمماحكاتهم التافهة ومطالبهم العقيمة. ما زال عدد الوزرات وأسماء الوزراء والحصص أهم من مصير لبنان واللبنانيين. يهتمون بأمور كثيرة والحاجة إلى أمر واحد: إنقاذ البلد والتكاتف والعمل الجدي من أجل ذلك.
عودوا إلى ضمائركم يا أيها المسؤولون. إن استمررتم في غيكم لن يبقى وطن ولا مواطنون. تواضعوا وأصغوا إلى أنين شعبكم. لا تفرحوا بما تكتنزونه على الأرض بل "افرحوا بأن أسماءكم كتبت في السموات" كما يقول الرب في إنجيل اليوم. تحلوا بالحكمة، وافتدوا الوقت "لأن الأيام شريرة" (أف 5: 16).
دعوتنا اليوم، أن نتواضع، وأن نحب، وأن نخشى حكم الرب، وألا نتسلط على الآخرين أو نشعر بأننا مميزون، مهما علا شأننا أو كثر فهمنا أو زادتْ حكمتنا. لنجتمعْ جميعنا تحت سلطة واحدة، هي سلطة المحبة الإلهية، عندئذ تنتفي كل شرور البشرية، ويعم السلام مجددا، آمين".
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار