28-09-2020
تقارير
ريمون زيتوني
<p>صحافي لبناني</p>
صحيح أن الثروة النفطية ساهمت الى حد كبير في ازدهار البلاد ووضعت المجتمع الفنزويللي على لائحة المجتمعات الديموقراطية الحديثة في القرن العشرين، لكن الفساد والسياسات السيئة التي اتبعها كلّ من شافيز ومادورو أوصلت فنزويلا الى أزمة ربما هي الأخطر في الآونة الأخيرة. فبالرغم من العائدات النفطية التي قدرها الخبراء بحوالي تريليون دولار دخلت البلاد في أزمة اقتصادية سياسية واجتماعية كبرى قادت فنزويلا الى الانهيار الكبير.
تعود جذور الأزمة الحالية الى نمط الحياة الذي يتبعه الفنزويلليون، نمط أقل ما يقال فيه أنه فاشل للاستحصال على المال السريع. فالشعب الفنزويللي سلّم السلطة لشافيز على أمل حصولهم في المقابل على حياة رغيدة. ولكن، بدلا من ذلك، جر شافيز البلاد الى الشيوعية والفوضى عبر الغاء حدود الملكية وسيادة القانون، فوسع بذلك صلاحيات الحكومة التي وضعت يدها على القطاع الخاص، وحدّت من عمل المؤسسات الاساسية في المجتمع، ناهيك عن الفساد الذي استشرى داخل المؤسسات الحكومية.
تتمتع فنزويللا بأكبر احتياطي نفط في العالم (360 مليار برميل) وبسبب ارتفاع أسعار النفط حققت الدولة أرباحا طائلة تقدر قيمتها بـ 300 مليار دولار. ولكن تم انفاق هذه الأموال في أغلبها على دعم الثورة البوليفارية بدلا من استثمارها في قطاعات الصحة والتعليم والبنى التحتية..
في عام 2013 توفي شافيز واستلم نيكولاس مادورو السلطة الذي استرسل في سياساته الاستبدادية والتعنتية بدلا من العمل على انقاذ البلاد من الازمة التي تتخبط فيها.
في عام 2014 انهارت اسعار النفط. لم تكن فنزويللا مستعدة لهذا الانهيار مما أظهر هشاشة السياسات الاقتصادية المتبعة في الدولة.
في عام 1998 انخفض انتاج النفط الى 3 ملايين برميل يوميا وفي عام 2017 الى 1.5 مليون برميل. ومن المرجح ان يصل الى 600000 برميل في نهاية هذا العام. خسرت فنزويللا بالتالي ناتجها المحلي الاجمالي خسارة تجاوزت الـ 50%.
في العشرين عام الماضية تم اغلاق 60% من الشركات وتدهور الحد الأدنى للأجور الى ما يقارب الـ 3 دولار شهريا وأصبح 80% من السكان يلامسون خط الفقر، 15% من الأطفال تعرضوا للموت ولم يزالو نتيجة سوء التغذية، أدوية غير متوفرة نتيجة الديون المتراكمة لصالح شركات الأدوية، أكثر من 3 ملايين فنزويللي نزحوا الى دول كسوريا وكولومبيا وأفغانستان نتيجة الظروف القاسية في البلاد. هذا وتراكمت الأزمات وليس آخرها أزمة الكهرباء وانعكاسها السلبي على مختلف القطاعات، ما حدا بالحكومة الى فرض التقنين في المناطق باستثناء العاصمة كاراكاس حيث تخشى الحكومة الاضطرابات الاجتماعية.
حتى عام 1960 كانت فنزويلا تحتل المرتبة الثانية بانتاج النفط عندما حل مكانها الاتحاد السوفياتي، وأول مصدرعالمي حتى أوائل السبعينيات عندما حلت محلها المملكة العربية السعودية. في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي احتلت فنزويلا مكانا لها بين أغنى 20 دولة في العالم. وفقا لمعايير الدخل الفردي أصبحت حينها مقصدا للباحثين عن الربح المادي السريع.
ان السياسات المالية والنقدية الحكيمة التي سادت في النصف الاول من القرن العشرين أفسحت في المجال تدريجيا أمام شعبوية الاقتصاد الكلي، الا أن النتائج لم تأت على المستوى المطلوب. كان تراجع الرأسمالية الريعية في الثمانينيات مؤلما، وفشلت اصلاحات السوق بسبب نقص الدعم الشعبي. لم يدرك الناس وقتها أنه كان من المستحيل استعادة ثروات الأيام الماضية.
قررت منظمة عسكرية تدعى الحركة البوليفارية 200 التي أنشأتها مجموعة من الضباط العسكريين عام 1983 توجيه ضربة، فشنّت انقلابين عسكريين في عام 1992 ولكنها فشلت في الوصول الى السلطة. الّا ان هوغو شافيز أحد أبرز قادتها حاز على دعم كبير مما أمّن له الفوز في انتخابات عام 1998. قدّم شافيز البرنامج النموذجي للجيش القومي الاصلاحي، وبتسلسل خطط له بعناية قام بين عامي 1999 و 2006 بتغيير الدستور بحيث أتاح له ذلك السيطرة على الحكومة ووسائل الاعلام وازاحة الطبقة السياسية القديمة.
كانت تشافيزمو في البداية تحالفا من السياسيين والمثقفين اليساريين واليمينيين الذين تشاركوا وجهات النظر المناهضة للنظام منذ عام 1958 وتجنبوا الليبرالية الجديدة وعارضوا الى حد ما الديمقراطية التمثيلية. سرعان ما انتقل تحالف شافيزتا الى اليسار. وفي عام 2000 تمت صياغة الاتفاقية الكوبية الفنزويلية، وبالتالي أدت الصداقة الوثيقة بين شافيز وفيدل كاسترو الى وصول المستشارين الكوبيين الى فنزويلا والذين استلموا وظائف حكومية استراتيجية ولكن انتهى بهم الأمر الى تقديم خدمات استخباراتية مهمة للحكومة الفنزويلية.
شعر الناس بخيبة أمل نتيجة لتدهور الوضع الاقتصادي، وانخفضت شعبية شافيز في أواخر عام 2002 الى أقل من 30%، ولكن الانقلاب الفاشل ضده من جهة، وازدهار أسعار النفط من جهة ثانية، شكّلا عاملين أساسيين في اعادة تعويمه وتحصين مكانته السياسية باعتباره بطلا لا يقهر.
في أوائل عام 2003 استولى شافيز على شركة النفط الوطنية بعد طرد 20000 من مديريها وعمالها ذوي الكفاءات العالية. وتحولت الشركة الى مصدر مصروفات نثرية للحكومة. وحول شافيز الجيش الى داعم أساسي له، وسعى الى بناء مكانته الدولية كثوري صالح نجح في مواجهة النخب المحافظة، وهي حقيقة جزئية. على أي حال، اندحر النظام القديم في عام 2002 عندما هزم العديد من أركانه الرئيسيين بما في ذلك الحزبين التقليديين والنقابات المرتبطة بهما ومديري صناعة النفط ورجال الأعمال الذين، حتى ذلك الحين، تقاسموا السلطة ضمن اجماع على توزيع ريع النفط فيما بينهم.
ثم جاءت فرصة نفطية أخرى فارتفعت أسعار النفط الى أكثر من 100$ للبرميل الواحد منتصف عام 2008 بعد ان تدنى سعره الى 20$ بين عامي 2001-2003 مما أضاف أرباح تقدر بـ 300 مليار دولار الى خزينة الدولة. ولكن الأزمة المالية العالمية التي حدثت بعدها أدت الى تدهور أسعار النفط من جديد. رغم ذلك، عززت مكاسب النفط غير المتوقعة من مكانة شافيز. فالى جانب الارادات المرتفعة زاد الانفاق العام، وأرست الحكومة سياسات اجتماعية دعيت بالـ"مهمات"، وهي برامج هدفت الى توسيع نطاق الوصول الى التعليم والصحة والغذاء المدعوم والاسكان المجاني والمساعدات المالية المباشرة والسعي الى القضاء التام على الفقر في نهاية عام 2021. كما تم وضع رقابة صارمة على النقد الأجنبي في عام 2003 لأسباب سياسية، مما سمح للحكومة بكبح جماح القطاع الخاص الذي كان ولا يزال يعتمد على العملات الأجنبية الناتجة عن الصادرات النفطية الخاصة.
في هذه الفترة شهد العالم تقدما ملحوظا ومشجعا عند الحكومة الفنزويلية، فقد ضاعف الفقراء طاقتهم الاستهلاكية وانخفض معدل الفقر من 70% في 1999 الى 30% في عام 2003، وأشار برنامج الأمم المتحدة الانمائي الى أن مؤشر التنمية البشرية وصل الى 0.764 لتحتل فنزويلا المرتبة 67 بين 187 دولة. لقد كان العصر الذهبي لتشافيزمو.
سعت فنزويلا الى أن تصبح قوة اقليمية من خلال مساعدة الحكومات اليسارية على النهوض في العديد من دول أميركا اللاتينية وذلك بتزويدها بدعم مالي قوي للبقاء في السلطة. كان الهدف من ذلك انشاء محور بديل للولايات المتحدة الأميركية.
ولد التحالف البوليفاري لشعوب أميركا في عام 2004 وبدأ مخطط البتروكاريب Petrocaribe لدعم البلدان الأخرى من خلال واردات النفط الفنزويللي. أمنت هذه الديبلوماسية النفطية لشافيز (ولمادورو مؤخرا) الأصوات اللازمة للصمود في وجه التحديات أمام المحافل الدولية.
في عام 2007 أصبحت فنزويلا رسميا دولة اشتىراكية. وبدأت الحكومة بشراء الشركات التي تمت خصخصتها في أوائل التسعينيات مثل شركة الهاتف الوطنية (CANTV) وشركة أورينوكو للصلب (ORINOCO) في عام 2008 وبانكو دي فنزويلا (Banco Di Venezuella) في عام 2009، كما صادرت الحكومة الممتلكات من دون تعويض. تم تأميم حوالي 1000 شركة بين 2005 - 2017.
كانت الخطة تهدف الى وضع جميع أساسيات الاقتصاد تحت سيطرة الحكومة، فأصبحت الشركات تخضع لروابط صارمة على الأسعار، وبالتالي اضطرت هذه الأخيرة الى البيع بخسارة وفي أغلب الأحيان بيع نصف انتاجها على الأقل للحكومة.
انخفض الانتاج غير النفطي أيضا كالأرز والذرة وقصب السكر كما انخفض أيضا انتاج صناعة السيارات (170000 سيارة في عام 2007 الى 2788 سيارة فقط في عام 2017). باختصار، لم ينج اي قطاع من الانهيار.
بحلول عام 2017 كانت الواردات عند ربع مستوى ذروتها الذي بلغته في 2012، عندما كان شافيز يناضل من أجل اعادة انتخابه. أصبح التقنين حقيقة من واقع الحياة اليومية، وازدهرت السوق السوداء.
ادت ممارسات شافيز في القيادة والفساد المستشري في الدولة الى ابعاد العديد من الفنزويلليين عنه، اضف الى ذلك النتائج السيئة للسياسات الاشتراكية والانخفاض في عائدات النفط.
هذا الوضع عوّم نيكولاس مادورو الوريث السياسي لشافيز فأتى الى السلطة بدعم من الجيش وبالأخص من الجماعات شبه العسكرية التي تعمل بمثابة الحرس الجمهوري.
دعا مادورو الى انتخابات الجمعية التأسيسية الوطنية عام 2017 من دون احترام الدستور. لم يتم الاعتراف حينها بهذه الانتخابات من قبل المعارضة والحكومات الأجنبية بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية والعديد من أعضاء الاتحاد الأوروبي.
ثم عاد ودعى الى انتخابات رئاسية زائفة في أيار 2018 رفضتها المعارضة والمجتمع الدولي مرة جديدة باعتبارها غير عادلة وغير قانونية. تم حظر العديد من الأحزاب وتم اقصاء الكثير من قادة المعارضة عبر ارسالهم الى المنفى أو سجنهم.
اعتبرت المعارضة ولاية مادورو الجديدة (2019-2025) غير شرعية، فأعلن الشغور المطلق في رئاسة الجمهورية، ووفقا للدستور، عيّن خوان غوايدو رئيسا مؤقتا اعترفت به 60 دولة ويجري العمل الآن على تأمين دعم لحل الأزمة السياسية من خلال انتخابات حرة ونزيهة في أقرب وقت ممكن، وتجمع هذه الدول على أن هذه التغيرات لا يمكن أن تحدث الا بعد تنحي مادورو. والجدير بالذكر أن حكومة الولايات المتحدة هي الخصم الأقوى والأكثر حزما لنظام مادورو، وهي تفرض عليه عقوبات كبيرة منذ عام 2017.
يؤكد المراقبون بأن الاصلاح يبدأ بعملية سياسية، تبدأ بتنحي مادورو عن السلطة واجراء انتخابات حرة ونزيهة تأتي بقيادة جديدة الى السلطة تتمتع بمكانة سياسية قوية مدعومة من الدوائر الانتخابية الحاسمة ومن المجتمع الدولي.
تمت صياغة خطة اصلاح تسمى "Plan Paix" بموافقة المعارضة. خطة تهدف الى توفير المساعدة الانسانية (غذاء، أدوية، رعاية صحية...) واستقرار الاقتصاد الكلي، وانجاز الاصلاحات الهيكلية والمالية والمساعدات المباشرة لدعم السكان الأكثر فقرا وضعفا. تشمل هذه الخطة أيضا سياسات موجهة لاعادة تنشيط صناعة النفط وجذب الاستثمار الأجنبي وتفعيل المشاريع الزراعية والصناعية جنبا الى جنب مع البرامج الآيلة الى خلق فرص عمل جيدة بقيادة القطاع الخاص.
أما بالنسبة الى التحديات الأمنية فتتضمن الحاجة الملحة الى القضاء على تجارة المخدرات غير المشروعة وتجارة الأسلحة، وحلّ الميليشيات. هذا وتتضمن خطة "Plan paix" أيضا اعادة تنظيم القوات المسلحة والسلك القضائي والادارات العامة، كما اعادة هيكلة الديون في ظل وجود 160 مليار دولار من الديون المستحقة.
كل هذا يعني أن اعادة احياء فنزويلا يتطلب تمويلا من صندوق النقد الدولي ووكالات تمويل الصادرات الثنائية والتبرعات الأجنبية.
في النهاية ليست الحالة الفنزويلية سوى دليل قاطع على أن الفساد والسعي الفاسد وراء السلطة والمال في بلد ما يمكن أن يؤثر على قادة هذا البلد وبالتالي يدمر حياة شعب بأكمله.
أخبار ذات صلة
مقالات مختارة
لبنان يُنافس فنزويلا في أدنى المراتب الدولية
أبرز الأخبار