12-05-2020
مقالات مختارة
جورج شاهين
جورج شاهين
ليس صعباً على أيّ مراقب يسعى الى مقاربة حجم الاهتمام الواسع بالأزمة النقدية التي يعانيها لبنان ان يكتشف مزيداً من الغرائب. فبعدما تهاوى سعر صرف الليرة وتجاوز كل السقوف المتوقعة وعجزت السلطات النقدية والمصرفية عن مواجهته، باتَ من مسؤولية السلطات الأمنية والقضائية، الى أن تداخلت الأمور في ما بينها الى الدرجة القصوى. فعندما انفجرت الأزمة النقدية بعد ايام على انتفاضة 17 تشرين الأول الماضي وإقفال المصارف ابوابها امام المواطنين لأسبوعين، ظهر انّ وراء الأكمة ما وراءها، وانّ الأزمة لن تقف امام حدود معينة وهي بلا سقف محدّد وليس هناك من هو قادر على لملمتها ومحاصرتها.
وعلى هذه الخلفية، فقد أظهرت كل المعطيات التي تكشّفت حول الازمة النقدية انها قديمة ومؤجلة، وانها كانت تتفاعل خلف الابواب المغلقة وتم التعتيم عليها منذ سنوات عدة. وانّ ما اتّخِذ من إجراءات مالية ومصرفية في السنوات الخمس الأخيرة لم يكن سوى لتأجيلها ومعها ساعة الصفر قدر الامكان. فقد سقطت كل الرهانات على سلسلة من الإصلاحات المالية والإقتصادية التي تعهدت بها السلطة السياسية قبل عقدين من الزمن امام اللبنانيين اولاً، وثانيها امام مجموعة الدول والمؤسسات المانحة التي تعهّدت بمساعدة لبنان على تجاوز أزماته ووفّرت له مظلة واقية تغنّى بها اللبنانيون على مدى السنوات الماضية. وانّ ما اتخذ من إجراءات مالية ونقدية، والتي قادها مصرف لبنان ومعه جمعية المصارف ووزارة المال، كانت لاستيعاب الموقف في انتظار تلك اللحظة السياسية للتعويض على نتائجها الكارثية والتي لم تأت حتى الأمس القريب.
فجميع من كان في السلطة يدرك جيداً انّ الوضع المالي والنقدي لم يكن سليماً وتحدثت عنه مجموعة التحذيرات التي أطلقها الخبراء منذ سنوات، ومنها مصادر داخلية وخارجية، ومنها تلك التي بقيت بين جدران أربعة جمعت أركان جمعية المصارف وحاكمية مصرف لبنان والمراجع الحكومية المعنية والتي جرت لفلفتها ضمن نطاق ضيق جداً. وما زاد من حدّتها مجموعة التقارير التي قدمتها مؤسسات التصنيف الدولية التي استؤجرت خدماتها لتقويم الوضع الاقتصادي ومعه الموازنة العامة، بالإضافة الى بعض المصارف التي حذّرت ايضاً من بلوغ لبنان شفير الإفلاس والتي جرى تفسيرها بشكل مَغلوط جعلها موضوع نقاش على خلفيات سياسية تجنّبت المؤشرات النقدية والمالية الحقيقية التي أدّت الى ما نحن فيه.
كان واضحاً انّ الوضع النقدي لم يكن موضوع علاج مُجد وجدي في آن، فقد افتقدت الموازنات التي وضعت في السنوات الثلاث الأخيرة صدقيتها ولم تنجح أيّ منها في تقدير الواردات والنفقات، واختلف المعنيون حول قراءة أرقامها. فدار جَدل حول حجم الدين العام وكلفته، واختلفوا حول موجودات مصرف لبنان وحجم العجز في الميزان التجاري وصولاً الى تجاوز الدين العام ما نسبته 160% من الناتج القومي. وما زاد في الطين بلّة انّ تَلهّي السياسيين بالاتهامات قاد البلاد الى قطيعة شبه شاملة مع مختلف الدول والمؤسسات المانحة نتيجة توجهات سياسية لدى البعض وضعت لبنان في محور دولي غير مألوف، وأغرقته الديبلوماسية الغوغائية في مناكفات مع معظم القوى الداعمة له، ومع مصادرالتمويل العربية والغربية في مرحلة تلت شغوراً رئاسياً امتد 29 شهراً وضعَ البلاد على كف عفريت.
كان ذلك قبل ان تنجح التسوية السياسية عام 2016 في ترميم العلاقات الداخلية، من دون ان تحاكي الحاجة الى تعويم مبدأ النأي بالنفس الذي اشترطته القوى الدولية للاستمرار في رعاية الوضع المأزوم وتجنيب البلاد مخاطر الانزلاق الى المحاور الكبرى التي وضعت لبنان كما المنطقة على خط الزلازل بين «شاقوفَي» محور الممانعة والتحالف الدولي لمكافحة الارهاب وما لهما من انعكاسات لا يتحمّلها لبنان.
ومن هذه المنطلقات، ظهر انّ الوضع النقدي بات من مهمة الأجهزة القضائية والأمنية بعدما فقدت السلطة النقدية قدرتها على التحكّم بسعر السوق وإمكان ضبطه ضمن سقوف متدرّجة نتيجة الفوارق الكبرى بين اسعار سوق الصيارفة الشرعي وغير الشرعي. وبظهور دولار متفلّت بلا اي حدود، وآخر مضبوط حَدّدته التدابير المصرفية جرّاء تكوين دولار صناعي وآخر للمشتقات النفطية والقمح والأدوية والمستوردات الطبية. وهو ما قاد الى حال من الفوضى غير المسبوقة انعكست فلتاناً في اسعار المواد الاستهلاكية والغذائية وفي الخدمات العامة من دون اي ضوابط مالية او أخلاقية، فباتَ العاملون في القطاع بعد اعلان التعبئة العامة لمواجهة جائحة كورونا موضوع ملاحقة قضائية وأمنية وسياسية.
ولذلك كله، فقد تداخلت المساعي القضائية مع المصرفية والأمنية والسياسية لضبط السوق النقدي تزامناً مع فتح ملفات أخرى تحت شعار مكافحة الفساد، فتعدّدت المواجهات وتداخَل ما هو سياسي بما هو نقدي ومالي وإدراي الى مرحلة تعددت فيها السيناريوهات المعدّة للبلاد.
فملف التلاعب بالدولار قفز الى الواجهة بتوقيف نقيب الصيارفة ومعه مجموعة من أقاربه والمتعاونين معه، عدا عن المتفلّتين من اي عقود او ضوابط نقابية ومالية، ومن بينهم اجانب من غير العرب واللبنانيين بتهمة التلاعب بأسعار الدولار. وتراوحت الروايات المسرّبة من التحقيقات الجارية بين قائل انّ النقيب المؤتمَن على القطاع كان يجمع الدولارات عبر شبكته لمصلحة مصرف لبنان، كما قال آخرون انه لتجار الجملة او بهدف المضاربة وجمع الثروة بطريقة ملتوية لا تقدر مخاطر انعكاساتها على الامن الغذائي والامن الإجتماعي وربما الأمني. لكنّ ذلك لم يمنع من تخطّي الدولار عتبة الـ 4500 ليرة، ما يعني استحالة العودة به الى الحدود التي رسمها المصرف المركزي لشركات نقل الأموال بـ 3200 ليرة أو في المصارف بـ 3000 ليرة بعد التخلّص من حسابات صغار المودعين بـ 2600 ليرة. وكل ذلك يجري في ظل فقدانه خارج إطار هذه الخنادق المالية.
وعليه، وبناء على كل ما تقدم، لم يتمكن اي خبير او مرجع مالي او قضائي او امني من رسم الأفق المنتظر للدولار واسعاره سوى ما يجمعون عليه من انّ سقفه بات مفتوحاً على كل الاحتمالات، وربما اقترب من بضعة آلاف إضافية من الليرات اللبنانية وسط اقتناع شامل بإمكان «فَرملة» انهياره وضبطه في حدود معينة. ولكن كيف ومتى؟
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار