22-04-2020
لكل مقام مقال
غسان بيضون
مدير عام الاستثمار في وزارة الطاقة سابقا
وفيما كان يرتقب إيجاد حل لفئة أخرى من المودعين ممن تتجاوز أرصدة حساباتهم الخمسة ملايين ليرة أو الثلاثة آلاف دولار، أخرج مصرف لبنان من جعبته تعميمه الجديد رقم 151 المرفق بنسخة عن قراره الأساسي رقم 13221 تاريخ 21/4/2020، المتعلق بـ "إجراءات استثنائية حول السحوبات النقدية من الحسابات بالعملات الأجنبية، ويطلب فيه من المصارف تسديد أية سحوبات أو عمليات صندوق نقداً قد يطلب إجراءها أي عميل نقدًا من الحسابات أو المستحقات العائدة له بالدولار الأميركي، أو بغيرها من العملات الأجنبية، ما لم يكن من المستفيدين من أحكام القرار المتعلق بصغار المودعين دون الخمسة ملايين ليرة ....، وذلك بشرطين: موافقة العميل المعني وأن يبيع لمصرف المعني لمصرف لبنان العملات الأجنبية الناتجة عن عمليات السحب من الحسابات أو المستحقات
سبق لمصرف لبنان أن وعد بإنشاء وحدة خاصة في مديرية العمليات النقدية لديه وبإنشاء منصة الكترونية تضم كلاً من مصرف لبنان والمصارف ومؤسسات الصيرفة ويتم من خلالها "الإعلان بكل وضوح وشفافية عن أسعار التداول" بالعملات الأجنبية النقدية سيما بالدولار الأميركي وفقاً لـ "سعر السوق"، ولم يتم إنشاء هذه الوحدة حتى اليوم لأسباب مجهولة، وإنما باشرت بعض المصارف باعتماد الـ 2600 ليرة لتحويل مسحوبات المودعين الصغار إلى الليرة، دون إطلاق هذه المنصة الموعودة، ومن يدري أي سعر أو أسعار سوف تعتمد بنتيجة تطبيق هذا التعميم الجديد الذي يوحي بحرية كل مصرف "هو وشطارته" في اعتماد سعر صرفه الخاص مع عملائه، وإلا ما معنى ما ورد في المادة الثانية التي توجب على كل مصرف الإعلان عن سعر السوق المعتمد لديه، غير تعدد الأسواق بتعدد المصارف وربما تعدد الزبائن، طالما لم يتم إطلاق تلك المنصة المفترض أن تنسق العمليات بما يؤدي إلى توحيد سعر الصرف، بالتعاون مع الصرافين من الفئة "أ".
وحيث أن السلع الأساسية، وبالتحديد القمح والأدوية والمحروقات لزوم كهرباء لبنان ما زالت تحظى حتى اليوم بحماية ودعم وأفضلية على غيرها من المستوردات، ومعها المستلزمات الطبية وغيرها من السلع الحيوية التي يتمكن مستوردوها من إثبات طبيعتها وضرورتها الملحة، التي التزم مصرف لبنان بفتح الاعتمادات اللازمة لها بسعر الصرف الرسمي الثابت الافتراضي اللعين إياه، والمحدد بـ 1507،5 ل.ل. للدولار، والذي لم يجد مصرف لبنان سبيلاً له للخروج منه بعد بطريقة صريحة، أرى من المفيد مقاربة تعميم مصرف لبنان الجديد من هذه الزاوية، لا سيما وأن بين سطوره ما يؤشر إلى إشكالية ما في قدرته على تغطية الاعتمادات اللازمة لاستيراد هذه السلع، كأن تكون احتياطياته بالعملات الأجنبية بلغت خطاً أحمراً ما، أو من باب الشطارة واستغلال حاجة بعض المودعين الملحة، لا سيما المتقاعدين منهم، للسحب من ودائعهم أو من الفوائد التي تستحق لهم دورياً، وتراجعت حصيلتها اليوم إلى النصف تقريباً، عله يتمكن بذلك من تحميل هؤلاء حصة من فروقات سعر صرف الدولار الفعلي، الأمر الذي يمكن أن يفسر أيضاً إلحاح مصرف لبنان على العودة إلى وضع يده على التحويلات الواردة بالعملات الأجنبية إلى لبنان عبر المؤسسات المالية من غير المصارف، وكذلك على المسحوبات المحتملة للمودعين، ممن لم يعودوا قادرين على انتظار الإفراج عن ودائعهم بعد التجميد الواقعي الذي طالها والمستمر منذ شهور.
إضافة إلى الغموض، تجتمع في التعميم الجديد لمصرف لبنان عدة معان ومؤشرات سلبية تترك المجال واسعاً للمجهول، ففيه، في آن معاً، استغلال لتجميد أموال المودعين واقعياً، و "ابتزاز" من نفذ صبره منهم بانتظار تحرير مدخراته، وسعي لإرساء أعراف في العلاقات المصرفية وتغطيتها بالظروف الاستثنائية المستمرة لفترة الأرجح أن تطول ويتكرس معها انعدام الثقة بالمصارف وبمصرف لبنان وبالنظام المصرفي ككل، وبالعدالة وبالحكومة التي بدت عاجزة عن المبادرة إلى تنظيم المرحلة بطريقة عادلة واتخاذ ما يلزم من إجراءات للاقتصاص من كل هؤلاء، بما فيه تعليق مهام من فشل في ممارسة صلاحياته والحفاظ على سلامة النقد الوطني وأداء النظام المصرفي، دون أن يرف لهم جفن، بانتظار إيجاد سبيل مشترك لاستعادة المال المنهوب والمهرب وملاحقة الفاسدين ومحاكمة المقصرين.
إن في تعميم مصرف لبنان الجديد خطوة إضافية باتجاه تحرير سعر الصرف وتشجيع للمصارف على مساومة العميل على سعر صرف خاص لتحويل مسحوباته بالعملة الأجنبية على أساسه، وتكريس لاعتماد الإجراءات التي تناسبها في تحديد سقوف لسحوبات المودعين وبرمجتها وتوقيتها، ومصادرة لحصيلة المبالغ المسحوبة نقدًا من الحسابات أو المستحقات بالعملات الأجنبية لتغطية حاجات مصرف لبنان من هذه العملات بسعر أقل من السوق الفعلي، تحت عنوان تأمين "حاجات الاقتصاد الوطني" ومقتضيات المصلحة العامة وعملاً بصلاحيات الحاكم، المنصوص عليها في قانون النقد والتسليف، بانتظار أن "يخلق الله ما لا تعلمون" خلال فترة العمل المحددة لهذا القرار بستة أشهر.
وقياساً على ما أدى إليه قرار الحكومة المتعلق بتثبيت سعر البنزين، الذي حدا بالمجلس الأعلى للجمارك لاتخاذ قرار بزيادة "تعريفة الرسوم الجمركية على المشتقات النفطية، مع كل انخفاض في الأسعار العالمية لهذه المشتقات، يمكن اعتبار أن التعميم الجديد لمصرف لبنان، من خلال الاقتطاع الفعلي لجزء من قيمة مسحوبات المودع الراضخ لمشيئته، هو في جوهره ضريبة مقنعة تفرض على المودع المضطر، للمساهمة في تغطية جزء من تكلفة استيراد السلع الأساسية من قمح وأدوية ومحروقات، وغيرها مما يمكن أن يضم إلى هذه اللائحة.
وفيما البلد على مشارف حراك جديد تجمع لدى "منسقيه" الكثير من الأسباب والدوافع والمبررات لملء الشوارع بالمسيرات والشعارات للمطالبة بتأمين لقمة العيش ومن خلفها بإسقاط الصامتين قبل الفاعلين والمتسببين، ومن باب التجربة مع خلفيات وانعكاسات تعاميم مصرف لبنان السابقة المشابهة، علينا أن نتوقع هبة تضخم جديدة في السوق نتيجة ضخ المزيد من الليرة فيه، ومعدلاً جديداً لصرف الدولار وقفزة جديدة له تؤدي إلى ارتفاع جديد في أسعار السلع، حتى المحلية منها على أبواب رمضان، واتساع الفرق بين سعر تحويل وديعته وسعر السوق الملتهب، ليزيد من خسائر المودعين المضطرين لتحويل بعض دولاراتهم إلى ليرات ومن كلفة معيشة غيرهم من المواطنين الرهائن، وما عليهم إلا الإذعان!
أبرز الأخبار