29-06-2019
مقالات مختارة
ايلدا الغصين
صحافية لبنانية كتبت في العديد من الصحف آخرها الأخبار
بلّغ عباس أهله بالنتيجة، ثم خلد إلى غرفته ليطلق «رسالة» أليمة لا في رأسه بل في رأس نظامنا التعليمي - التربوي. ماذا يعني أن يطلق مراهق النار على رأسه على خلفيّة نتيجة امتحان؟ الأسباب عديدة، لكنّ أكثرها حضوراً في الرأس: الأهل والمدرسة والنظام التعليمي... واستحضار هذه الجهات يعني أنها الأكثر مسؤولية عن الفشل.
لماذا فجّر عباس سخطه بنفسه؟ مع أنّ والده حثّه على المحاولة في الدورة الاستثنائيّة كما روى الأقارب. هل هو خوفه من حكم الأهل، الأقارب، زملاء الدراسة، أم الأساتذة؟ أهو ارتيابه من الاستيقاظ على صور أصحابه الناجحين «تغزو» مواقع التواصل؟ لا جواب أكيداً. الاجتهاد في توقّع الإجابة ليس إلاّ سعياً منا لإيجاد حمّالة واحدة لأخطاء «السيستم» التعليمي - التربوي المتراكمة. الأكيد أن ضحايا هذا النظام، وطريقة تقييمه للتلامذة، كثر. الجميع شركاء في تنشئة جيل «هشّ» أمام فكرة «الرسوب». هذه المرة كانت النتيجة ظاهرة، عُرف اسم عباس، لكن أسماء كثيرة لا نعرفها. الضحايا كثر، سواء أطلقوا رصاصة أو انكفأوا عن الدراسة أو أُحبطوا أو عانوا نفسياً بصمت. الأثر اللاحق للخوف من القصاص، من عبسة المعلّم، من عصاه الغليظة، من الامتحان، من النتائج، من الاقتصاص والعقاب، من المقارنة بالآخرين، من المفتّشين التربويّين، من المراقبين، من القوى الأمنية على مداخل مراكز الامتحان وأخيراً من كاميرات المراقبة. إنه الخوف من الكادر الفارغ من ورقة شهادة في الصالون.
ما قيمة شهادة «البريفيه» إن عرفنا أن أطفالاً بعمر من نجحوا في فكّ مسألة رياضية حول «المثلثات المماثلة» يحاولون ابتكار تطبيقات إلكترونية في بلدان أخرى؟ أين أصبحنا في مسار تطوير التعليم؟ المخترع توماس إديسون قال إنه لم يفلح يوماً في المدرسة لا بل كان «الأخير» في صفه. المخرج السينمائي ستانلي كوبريك أرجع الخطأ الأكبر في المدارس إلى استخدامها التخويف كمحفّز أساسي، التخويف من العلامات المتدنيّة ومن عدم البقاء في الصف. المفكّر برتراند راسل اعتبر أن التعليم هو العقبة الأساسية أمام الذكاء وحريّة الفكر. المخرج وودي آلن أعلن كرهه وندمه على كلّ لحظة قضاها في المدرسة. هذه عيّنة. ولكن هل ينفع تعداد أسماء المشاهير والعباقرة الذين رسبوا في المدرسة وتفوّقوا في الحياة؟ لن يخفّف استعراض أسمائهم من ألم عائلة عباس، لكنه قد يقي عائلات عديدة من المبالغة في مقارنة أبنائها بسواهم وفي الضغط عليهم ليكونوا «الأوائل في الصف». وقد يفيد أيضاً للتمييز بين مفهومي «الرسوب» في نظام تعليمي و«الفشل» في حياة كاملة. الفرق شاسع بين المفهومين، لأن الأوّل تحدّده علامة أو درجة، هي معيار «غير عادل» ومختزل لتقييم قدرات التلامذة ومواهبهم واحتمالات نجاحهم في الحياة وتميّزهم خارج المواد الأكاديميّة.
المناسبة ليست دعوة للَجم فرحة الأهل بنجاح أولادهم، بهدف التخفيف عن الراسبين وذويهم. بل إنها مناسبة للتخفيف من المبالغة في الابتهاج سواء بالرصاص أو بالمفرقعات أو عبر السوشيل ميديا وفي الصالونات. لا لشيء، إلاّ لدرء الخسائر التي قد يمنى بها «متفوّقو اليوم»، أمام أبواب الجامعة وعند أول محاولة للحصول على وظيفة.
ليلة الامتحانات، بكى أحد التلامذة أمام مبنى وزارة التربية لأنه لم يحصل على بطاقة ترشيحه مع عشرات التلامذة الآخرين. بعد خبر محاولة انتحار عباس، جرى تناقل أخبار «غير دقيقة» حول إقدام تلميذ آخر على رمي نفسه من الطابق الثاني بسبب رسوبه، وعن ثالث حاول تسميم نفسه. فُتحت الشهيّة على تسجيل مزيد من الضحايا، بينما شاهدنا أخيراً فيديوات لأساتذة ابتكروا أساليب جديدة لإلقاء التحية على التلامذة، وصوراً لمعلمة لبنانيّة قدمت الحلوى يوم الامتحان لطلابها... كانت هذه المحاولات الفرديّة «جرعات مسكّنة». كان ذلك قبل حادثة أمس التي أعادتنا إلى النقطة الصفر. تلميذ وقع ضحيّة نتيجة الشهادة، وآخرون صنّفوا مناطقياً لتفوّقهم. اليوم ليس أمامنا إلاّ البدء من مكان جديد. لأن الرصاصة لم تكن طائشة، بل كانت مصوّبة إلى رأس نظامنا التعليمي.
أخبار ذات صلة
أبرز الأخبار