27-11-2018
مقالات مختارة
علي الامين
علي الامين
هذا النمط من السيطرة، اتخذ حيناً وسيلة إنشاء وتمويل مقاومات في لبنان وفلسطين المحتلة، في موازاة ضرب أي مشروع مقاومة وطني قائم، بما يضمن تحويل “المقاومة” إلى ورقة إيرانية تتحكم بها طهران، وحيث لا تنفع ورقة المقاومة كشعار أيديولوجي، تمّ استثمار الخطاب المذهبي كمجال خصب يمكن النفاذ من خلاله والسيطرة على فئات من المجتمع. وهذا ما برز ولا يزال في العراق واليمن وحتى سوريا، حيث عمدت إيران إلى التغلغل في هذه الدول، مستثمرة في الشروخ المجتمعية وقدّمت نفسها باعتبارها الحصن الحصين للأقليات، كما أظهرت كفاءة أمنية واستخبارية في اختراق البيئات السنيّة، التي تحوّلت مع ظهور تنظيم داعش كما هو الحال في العراق، في حال من العراء السياسي جعل من بعضها أكثر قابلية لبناء علاقات منفعة وحماية، في ظل تدهور وتصدع البنيان الوطني.
المنهج الإيراني الذي اعتمد منذ الثورة الإسلامية أي قبل نحو أربعة عقود، لا يبدو أنه قابل لأن يتعقلن في منهج السيطرة والنفوذ هو يسير في اتجاه واحد؛ الاتجاه الأيديولوجي الذي لا ينطوي على خيارات تتصل ببناء نموذج للدولة، ولا يحتمل بطبيعته هذه، وحدة المجتمع في إطار وطني وتحت سلطة الدولة، لذا هو قلق ويبدي توتراً عالياً حيال أي مشهد سياسي وطني يقوم على أسس وحدة الشعب وقوة الدولة، وهذا إن أضاء على البعد الأيديولوجي في مواجهة مشروع الدولة، فهو يكشف أيضاً مدى العجز أو عدم الرغبة في التغلغل نحو الدولة العميقة وآليات عملها، إذ ليس خفيا أن الإدارة الأميركية التي احتلت العراق وسحبت جنودها منه، ثم عادت إليه بعد انهيار الدولة أمام زحف تنظيم داعش، لا تبني نفوذها في العراق على قاعدة ميليشياوية، بل تبني إستراتيجية نفوذها في مؤسسات الدولة؛ الجيش والقوى الأمنية ونُظم الإدارة والتعليم، وقبل ذلك في عملية بناء هيكل السلطات داخل الدولة.
من هنا فإن منهجية النفوذ الإيراني تقوم على السير بعقلية أيديولوجية وفي اتجاه واحد، لا تستطيع النظر إلى المجتمعات العربية ودولها، إلا باعتبارها جماعات وليست شعوبا، وعاجزة عن بناء أي علاقات بين دولة ودولة، فبنظرة شاملة على ما بذلته إيران في سبيل نفوذها من عشرات مليارات الدولارات في سبيل تمدّدها، نجد أن السياسة الإيرانية وإن تورطت في تدمير وإضعاف الكيانات الوطنية التي استهدفتها في محيطها العربي، فهي حصدت مستوى من العداء مع فئات واسعة من المجتمعات العربية باتت تنظر إليها كعدوّ، وليس خافيا ما قدّمته إيران من مال ودماء في سبيل بقاء نظام بشار الأسد حاكما في سوريا ، وهو لا يمكن مقارنته بما قدّمته واشنطن من أكلاف مادية محدودة. فإيران قدّمت الكثير من أجل بقائها في سوريا، ومهما علا اليوم الخطاب الأيديولوجي الإيراني، فإن الحصيلة في سوريا مرشحة أن تكون لا شيء إلا العداء من قبل السوريين ضدها وعدم الوفاء لمن قالت إنها تقاتل من أجلهم، فضلا عن صرخات الشعب الإيراني التي لا توحي بأي حماسة جديّة لهذه الحرب التي خاضتها السلطة في سوريا ولا تزال.
الحصيلة الإستراتيجية أن الجهد الإيراني في هذا البلد، بات مصيره في أيد روسية – أميركية بالدرجة الأولى، وتركية – إسرائيلية في درجة ثانية، وإذا كان للشعب السوري دور في مستقبل هذا البلد (وهو بظني سيقرر مستقبله) فان أسوأ ما حصدته إيران من وجدان هذا الشعب، هو العداء الذي فاق في مستواه عداءه لمن كان، ولا يزال، عدوّ سوريا والعرب.
أما العراق فلا وجود لنفوذ إيراني خارج استمرار الدولة الضعيفة والعاجزة، لذا فإن الإصرار على بقاء الحشد الشعبي كمنافس للقوى المسلحة الرسمية، ينطوي على سياسة إبقاء العراق دولة معلقة، وكلما جنح الوضع العراقي نحو ترسيخ سلطة الدولة، كلما بدت إيران عاجزة عن التأقلم مع مشروع الدولة. ففي حين تبني واشنطن نفوذها على علاقات مع الدولة ومؤسساتها تبدو طهران منهمكة بالبحث عن الأشخاص الموالين لها، وهذا بحدّ ذاته سلوك يكشف أن الثقة الإيرانية بأي دولة عراقية مهما كان نظامها، هو أمر غير وارد، لكون الاستثمار الإيراني تركّز على نقيض الدولة ووحدة المجتمع، أي على الميليشيات والأفراد.
وينطبق هذا النموذج على لبنان ذلك أن قوة إيران في لبنان، تقوم على القوة المسيطرة على الدولة من خارجها، أي من خلال النفوذ العسكري والأمني الذي يترجمه حزب الله على مؤسسات الدولة، الدستورية والقضائية والأمنية والعسكرية، وهذا نفوذ منفّر لمعظم اللبنانيين لأنه لا يقدّم للبنانيين أي أجوبة على أسئلة الانهيار المالي والاقتصادي الداهمة، ويزيد من قلق انهيار الدولة، فهو يعمل من خارجها وإن كان يغرف من أصولها ومواردها بشكل شرعي وغير شرعي.
والخسارة الإستراتيجية التي طالت النفوذ الإيراني في لبنان، ولا سيما بعد التورّط الدموي في الأزمة السورية، أنه افتقد المضمون الإنساني والأخلاقي الذي كان عنصرا أساسيا يستند إليه في أي مواجهة مع إسرائيل ، كما حصل في العام 2006 وقبلها، إلا أنه اليوم يدرك أن المضمون الإنساني والأخلاقي لم يعد قابلا للتوظيف في أي حرب محتملة مع إسرائيل ، فبعد سقوط أكثر من نصف مليون سوري، افتقد “حزب الله” أي إمكانية تعاطف عربي شعبي أو أوروبي وغربي عموما، علماً أن إسرائيل لن تفوّت فرصة استعادة ما تعتبره ديْناً معنويا على هذا الصعيد “الأخلاقي والإنساني” انتزعه “حزب الله” منها في مواجهات سابقة، وهي لن تفوّت فرصة استعادته في لحظة عراء سياسي غير مسبوقة لحزب الله على المستوى العربي، ولكن ذلك سيبقى مشروطاً بأن يقوم “حزب الله” بخطوة عسكرية أو أمنية ضد إسرائيل أو حتى في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة من قبل إسرائيل.
لذا يمكن رؤية كيف صار “حزب الله” الذي أُطلقت يده في سوريا، عاجزا حتى عن العمل من أجل تحرير مزارع شبعا اللبنانية، التي تكاد تغيب بالكامل عن خطابه السياسي، بل تحول بمشيئته أو رغما عنه، إلى قوة حماية لحدود إسرائيل التي خاضت كل حروبها ومفاوضاتها مع لبنان خلال العقود الأربعة الماضية في سبيل حماية “أمن الجليل”، وإن كانت ثمة جهة واحدة وقادرة على حماية الاستقرار في المقلب الآخر من الحدود، فهو “حزب الله” اليوم.
الوظيفة الثانية التي لا تزعج إسرائيل بل تتمناها هي وظيفة الاستقواء على الدولة اللبنانية، وهي الوظيفة التي استطاع “حزب الله” القيام بها وإدارتها. من هنا يمكن القول إن ورقة إشعال الحرب في جنوب لبنان أو في جنوب سوريا مع إسرائيل، لم تعد ورقة إيرانية يمكن استخدامها كما جرى في العام 2006، ويكفي أن ينظر جنود “حزب الله” إلى الجبهة الخلفية التي كانت في العام 2006 ليدركوا كم أن ورقة الحرب أصبحت في يد العدو الإسرائيلي وحده، الذي لن يتوقف عن ابتزاز الآخرين بها وأولهم إيران .
تحوّلت العقوبات الأميركية على إيران إلى عقوبات مؤذية لها، فأوراق الضغط الإيرانية على واشنطن تلاشت معظمها، وطالما أن واشنطن تضع النفوذ الإيراني وتمدّده في المنطقة العربية أساساً لأي عودة إلى طاولة المفاوضات مع طهران، فإن المنظومة الأيديولوجية الإيرانية التي تسير في اتجاه واحد، باتت محكومة بالمواجهة التي يبدو أنها ستكون داخل إيران لا خارجها هذه المرة، وتحت أنظار أصدقائها وأعدائها معاً، طالما أن الحروب الخارجية قد استنفدت طاقات إيران وأذرعها من دون أن تستطيع حتى حماية اتفاقها النووي مع واشنطن.
أبرز الأخبار