ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قبل ظهر اليوم الخميس في الصرح البطريركي في بكركي، لقاء الرؤساء العامين والرئيسات العامات والإقليميين، حمل عنوان ” كونوا خبرا الشركة”. وألقى الراعي كلمة في بداية الصلاة المشتركة، جاء فيها: “1. يسعدني أن أرحب بكم في هذا اللقاء، وأتأمل معكم في الموضوع الذي اخترتموه: “كونوا خبراء الشركة”. فأوضح أولا مفهوم الشركة، ثم أتناول الأصعدة الثلاثة: الشركة في الحياة الأخوية الديرية، والشركة بين مختلف المؤسسات الرهبانية، وشركة التعاون مع العلمانيين.
- أولا، مفهوم الشركة
- 2. الشركة لفظة كتابية ذات طابع لاهوتي وروحي وكنسي. ولها بعدان: البعد العمودي نجده في رسالة بولس الرسول إلى أهل كورنتس في عبارة نفتتح بها قسم القربان في القداس وهي: “لتكن نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس معكم جميعا” (2 كور 13: 13). ونجده أيضا في رسالة يوحنا الأولى، وهو شركة الإيمان بيسوع المسيح: “ذاك الذي رأيناه وسمعناه نبشركم به، لتكون لكم شركة معنا، وشركتنا هي شركة مع الآب وابنه يسوع” (1 يو 1: 3). والبعد الأفقي الذي هو الشركة الداخلية والسلوك في النور. نجده كذلك في رسالة يوحنا: “إذا سرنا في النور، كما أنه هو في النور، كانت لنا شركة بعضنا مع بعض ودم يسوع ابنه يطهرنا من كل خطيئة” (1 يو 1: 7). بهذا المفهوم تختلف الشركة (communion) عن الشراكة (association) التي هي تعاون في أشياء وتقاسم ثمارها. لكي تعاش الشركة ببعديها يشترط يوحنا الرسول ثلاثة: الأول، تجنب الخطيئة والتماس التكفير عنها من دم المسيح (1 يو 2: 1-2)؛ الثاني، عيش وصية المحبة الأخوية (1 يو 2: 7-11)؛ الثالث التغلب على شهوات العالم الثلاث شهوة الجسد (بفضيلة العفة)، وشهوة العين (بفضيلة الفقر)، وكبرياء الحياة (بفضيلة الطاعة). بهذه الفضائل نستطيع أن نعيش الاتحاد بالله والوحدة مع جميع الناس. هنا يكمن جوهر الحياة المكرسة كسير على خطى المسيح نحو المحبة الكاملة.
- 3. أعطى المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني تحديدا للكنيسة بأنها سر وشركة، أي علامة وأداة الإتحاد بالله عموديا، وأداة الوحدة بين الناس أفقيا. الكنيسة تعني الشركة وتحققها. فمن يدخل في الشركة مع الله بواسطة الكنيسة، إنما يدخل أيضا في شركة مع أخوته؛ وكل الذين يتحدون بالله إنما هم متحدون أيضا فيما بينهم. الله هو نبع الشركة، والكنيسة هي أداتها بحيث أن الروح القدس، الفاعل فيها وبواسطتها، يحقق شركة المؤمنين مع الله وفيما بينهم.
- 4. هذه الكنيسة-الشركة في جوهرها، هي على صورة شركة الأقانيم الإلهية الثلاثة في وحدة الطبيعة. إنها شعب مجموع في وحدة الآب والإبن والروح القدس، وهي عمل الأقانيم الإلهية الثلاثة. فبالمعمودية، التي أجراها الإبن وحققها الروح القدس، يصبح الإنسان إبنا للآب، وبالمشاركة في الخبز القرباني الواحد يدخل في الشركة مع الآب والإبن والروح، ومع المؤمنين الآخرين بالمسيح. يعلم بولس الرسول: “كأس الشكر التي نباركها، أليست هي شركة دم المسيح؟ والخبز الذي نكسره، أليس هو شركة جسد المسيح؟ فكما أن ذاك الخبز هو واحد، كذلك نحن جميعا جسد واحد، لأننا جميعنا نتناول من ذاك الخبز الواحد” (1كور 10: 16-17). كل هؤلاء المؤمنين يؤلفون بالمسيح جسدا واحدا هو الكنيسة حسب تعليم بولس الرسول: “كما أن الجسد واحد، وله أعضاء كثيرة، وأن جميع أعضاء الجسد، على كثرتهم، هم جسد واحد، كذلك المسيح أيضا. ونحن جميعنا قد اعتمدنا بروح واحد، لجسد واحد” (1كور12:12-13)، ثم إن الروح يحييها ويقدسها ويقودها موحدا إياها في الشركة وفي الخدمة، بما يفيض عليها من مواهب وعطايا وخدم تراتبية، فتوجد حالات مختلفة بين أعضاء الكنيسة، وتعددية في العلاقات القانونية .
- ثانيا، الشركة في الحياة الأخوية الديرية
- 5. تتحقق الشركة ببعديها في الحياة المشتركة، حيث الجماعة الديرية، على مثال الجماعة المسيحية الأولى، كما يذكرنا المجمع الفاتيكاني الثاني في قرار “المحبة الكاملة، حول تجدد الحياة الرهبانية” (العدد 15). فتعيش الجماعة الديرية الشركة بأركانها الثلاثة: الصلاة، وكلمة الإنجيل، والليتورجيا ولاسيما الإفخارستيا (أعمال 2: 42)، إنها الشركة ببعدها العمودي. بفضلها تتمكن الجماعة من أن تكون قلبا واحدا ونفسا واحدة (أعمال 4: 32)، بحيث يسودها التعاضد والاحترام المتبادل، وقبول الواحد الآخر بما بينهما من فوارق، والمسامحة المتبادلة، والخدمة المتفانية ، وسائر خصال المحبة التي أوردها بولس الرسول في نشيد المحبة (راجع 1 كور 13: 4-7). أما ما يوطد هذه الشركة فهي محبة الله المسكوبة في قلوبنا بالروح القدس (راجع روم 5: 5) التي تجعل الجماعة الديرية عائلة موحدة باسم الرب تنعم بحضوره (راجع متى 18: 20). هذه هي الشركة ببعدها الأفقي. 6. إن الشركة ببعديها تتوطد بالنذور الثلاثة التي بها يسعى الرهبان الراهبات إلى كمال المحبة ويندرجون في شركة الكنيسة الجامعة، جسد المسيح السري، التي يجسدونها في شركة الكنيسة المحلية، البطريركية والأبرشية. وتغتني الشركة بالمواهب والكفاءات التي يوزعها الروح القدس على الأشخاص من أجل خير الجماعة وإتمام الرسالة الموكولة إليهم من المسيح الرب الذي دعاهم لاتباعه. وهم وقفوا العمر كله لله وللكنيسة، ملتزمين بالرسالة وفقا لموهبة المؤسسين والتقليد الحي. ولذا، كلهم يخضعون لسنة العمل الرسولي حيث تدعوهم السلطة، واضعين ما أوتوا من مواهب الطبيعة والنعمة في سبيل الخدمة الرسولية الموكولة إليهم، دونما تمييز في النوع والمكان. فهي لكل واحد وواحدة المصدر لتقديس الذات. 7. إن الجماعة الديرية، وهي صورة مصغرة للرهبانية التي تنتمي إليها، إنما هي، متأصلة في الكنيسة: في “سرها ورسالتها وقداستها” . وبهذه الصفة ينتظر منها عمل روحي ورسولي في الرعية والأبرشية حيث تتواجد. إنها فيها “ثروة كبيرة وينبوع نعمة وحيوية. فهي بنشاطاتها الرسولية المتنوعة تسهم في الخطة الراعوية التي يرسمها الأسقف. وتندمج من ثم في مختلف أجهزة الأبرشية” . لا يمكن الفصل، في الحياة الديرية، بين شركة الاتحاد بالله، وشركة الوحدة الداخلية، والرسالة. لقد رسم القديس البابا يوحنا بولس الثاني الخط الرابط بين الكنيسة-السر، والكنيسة-الشركة، والكنيسة-الرسالة، انطلاقا من صورة الكرمة والأغصان (راجع يوحنا 15: 1-8): “أنا الكرمة وأنتم الأغصان” (الكنيسة-السر). “اثبتوا في وأنا فيكم” (الكنيسة-الشركة). “أقمتكم لتذهبوا وتأتوا بالثمار” (الكنيسة-الرسالة) .
- ثالثا، الشركة بين المؤسسات الرهبانية
- 8. إن روحانية الشركة بين المؤسسات الرهبانية عبر عنها القديس برنردوس بقوله: “إني معجب بالمؤسسات الرهبانية كلها… أنتمي إلى إحداها بالطاعة، وإليها كلها بالمحبة. إننا كلنا بحاجة بعضنا إلى بعض. فالخير الروحي الذي لا أملكه ولا أحوزه، أناله من الآخرين… في هذا المنفى الذي لا تزال فيه الكنيسة في طريقها نحو هدفها، نرى فيها الوحدة متعددة نوعا ما، والتعددية واحدة” . فمن أجل تحقيق هذه الشركة دعا المجمع الفاتيكاني الثاني إلى إنشاء مجالس رؤساء ورئيسات أعلين من أجل “المساهمة في البلوغ بشكل أفضل إلى الغاية الخاصة بكل مؤسسة، وتعزيز تعاون أفعل لخير الكنيسة، وتوزيع أكثر عقلانية من أجل خدمة الإنجيل في أماكن معينة، والبحث في الشؤون المشتركة، وخلق آلية تنسيق مع الأساقفة في العمل الرسولي”.
- 9. لقد أنشأ الطوباوي البابا بولس السادس هذه المجالس في “الإرادة الرسولية: نظام الكنيسة الجامعة” (15 آب 1967)، وأكدت عليها وثيقة “توجيهات بشأن العلاقات المتبادلة بين الأساقفة والرهبان في الكنيسة” التي أصدرها مجمعا الأساقفة والرهبان والمؤسسات العلمانية (14 أيار 1978). فأشارت إلى أن “غاية هذه المجالس الأولى تنشيط الحياة الرهبانية المندرجة في إطار الرسالة الكنسية. فيهدف نشاطها إلى خدمات مشتركة ومبادرات أخوية ومشاريع تعاونية، مع احتفاظ كل جمعية بما لها من طابع خاص، إذا أعيد النظر دوريا وبطريقة ملائمة في أسلوب العمل بكامله، وإذا قامت، قبل كل شيء، علاقات متبادلة بين مجالس الأساقفة ومجالس الرؤساء الأعلين على ما رسم الكرسي الرسولي” (العدد 21). 10. وفيما عبر القديس البابا يوحنا بولس الثاني، في إرشاده الرسولي “رجاء جديد للبنان” عن تقديره لما تقدمه الرهبانيات في المجالات التربوية والاجتماعية والصحية وسواها، فهو “يدعو الرهبان والراهبات إلى العمل دوما بتعاون وثيق، تعبيرا عن روح التكامل بين المواهب. وبهذه الروح عليهم أن يراعوا التوازن في توزيع الأشخاص والمؤسسات، طبقا للأولويات الراعوية، وفي استعداد كامل لخدمة الشعب اللبناني، ورسالة الكنيسة الشاملة، خارج حدود الوطن. ولا شك أن هذا الإنفتاح سوف يبعث في الحياة الرهبانية الرسولية في لبنان نهضة جديدة ودعوات جديدة” (العدد 54).ويعود المجمع البطريركي الماروني (2003 – 2006) فيشدد على ضرورة الوحدة والتعاون والتنسيق بين الرهبانيات المارونية، الرجالية والنسائية، “من أجل تعزيز شراكة العمل المسؤول وتكامله، وتجنب المنافسة في مؤسساتها والعمل على التقارب في المسعى الواحد، بالتعاضد البناء وتبادل الخبرات” .
- رابعا، الشركة والتعاون مع العلمانيين
- 11. ركز القديس البابا يوحنا بولس الثاني، في إرشاده الرسولي “العلمانيون المؤمنون بالمسيح” على إنتماء العلمانيين، بحكم المعمودية والميرون، إلى الكنيسة. ففي الكنيسة-السر لهم كرامتهم؛ وفي الكنيسة-الشركة لهم مشاركتهم؛ وفي الكنيسة-الرسالة لهم دورهم. من هذا المنطلق، يجب تعزيز تعاونهم في حياة الأبرشية والرعية وفي المؤسسات الرهبانية. يقول لهم المكرم البابا بيوس الثاني عشر: “أنتم لا تنتمون فقط إلى كنيسة، بل أنتم الكنيسة وخطها الأمامي”.في الإرشاد الرسولي “الحياة المكرسة” يدعو القديس البابا يوحنا بولس الثاني إلى الشركة والتعاون مع العلمانيين وتبادل المواهب، كي تتمكن المؤسسات الرهبانية من المساهمة بصورة أفعل في رسالة الكنيسة. ويبين ثمار هذا التعاون روحيا ورسوليا وخدماتيا، في حياة المؤسسة والكنيسة، وفي حياة المؤمنين العلمانيين أنفسهم، وعلى مستوى الدعوات الرهبانية.
- 12. إن الشركة والتعاون مع العلمانيين يظهران جليا في المؤسسات الكنسية عامة والرهبانية خاصة كالمدارس والجامعات والمراكز المتخصصة لليتامى والمسنين والمعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة. حيث يتولون إدارة وخدمة متخصصة وتعليما دينيا وسواها. إن العلمانيين يغنون بالحقيقة هذه المؤسسات، ولا بديل عنهم فيها. لذا، ينبغي العمل على تطوير مهاراتهم، وتعزيز روحانيتهم، وإذكاء وعيهم بأنهم، في ممارسة وظائفهم، على تنوعها، إنما يشاركون في وظائف يسوع المسيح الكهنوتية والنبوية والملوكية. كما علم المجمع الفاتيكاني الثاني في دستوره العقائدي “في الكنيسة” (الأعداد 34-36)؛ والقديس البابا يوحنا بولس الثاني في الإرشاد الرسولي “العلمانيون المؤمنون بالمسيح” (العدد 14).
- الخاتمة
- 13. “كونوا خبراء الشركة”. أجل، هي مسؤوليتكم، أيها الإخوة والأخوات، بصفتكم رؤساء ورئيسات عامين وعامات وإقليميين. أنتم ترأسون الشركة، كما ترأسون المحبة في مؤسساتكم الرهبانية. تسهرون عليها وتعملون مع أعضاء مؤسساتكم على تحقيقها في بعديها العمودي والأفقي، وفي القطاعات الثلاثة التي تأملنا فيها. فلتعضدكم في هذا المسعى نعمة الله الواحد والثالوث، الآب والابن والروح القدس، له المجد إلى الأبد، آمين”.