11-06-2018
مقالات مختارة
شارل جبور
شارل جبور
لا يمكن تجاهل المشهد الخارجي الذي يتحرّك بوتيرة سريعة على خط واشنطن-طهران- الرياض- تل أبيب، ولا تجاهل أنّ المواجهة الأساسية ما زالت محصورة في سوريا، وإلى حدّ كبير داخل إيران نفسها، في ظلّ سعيٍ أميركي لليْ ذراع القيادة الإيرانية من باب العقوبات الاقتصادية وجرّها إلى تنازلات تبدأ بالملف النووي ولا تنتهي بالدور الإيراني الإقليمي.
ودلّت المواجهة العسكرية بين تل أبيب وطهران في سوريا الى أن لا خطوط حمراً ولا ضوابط، وأنّ الأوضاع مفتوحة على شتى الاحتمالات ومن ضمنها الحرب، الأمر الذي دفع القيادة الإيرانية إلى التراجع عن سياسة التحدّي والتعامل ببراغماتية مع الأحداث في محاولة لتجاوز «قطوع» اللحظة السياسية من دون الاضطرار إلى تقديم تنازلاتٍ مؤلمة، ولكن لا يبدو أنّ سياسة شراء الوقت التي اشتهر بها هذا المحور ستنجح هذه المرة.
فعلى وقع هذا المشهد الساخن في المنطقة والمفتوح على تحوّلات حتمية بفعل إصرار القيادة الأميركية على تحقيق خروق جدّية في الشرق الأوسط، يتحرّك الرئيس المكلَّف سعد الحريري لتأليف حكومته الثالثة والثانية في عهد الرئيس ميشال عون، وذلك في ظلّ الكلام عن رغبة خارجية بتجميد التأليف تجنّباً لمنح «حزب الله» المشروعية التي يسعى إليها، خصوصاً أنّ الحكومة المقبلة قد تحكم المرحلة الممتدة حتى انتخابات العام 2022 إذا لم يطرأ ما يستدعي خلافَ ذلك.
وإذا كان من غير المطلوب، بالنسبة إلى وجهة النظر أعلاه، إقحام لبنان في المواجهة الدائرة تجنّباً لتداعيات خطوة من هذا النوع على أكثر من ملف بدءاً من النازحين السوريين وصولاً إلى النزاع مع إسرائيل وما بينهما توسّع دائرة عدم الاستقرار في المنطقة، فإنّ تجميد تأليف الحكومة يبقي لبنان في منزلة بين منزلتين: الحفاظ على التهدئة والاستقرار، ولكن من دون منح «حزب الله» المظلّة الشرعية، فيكون لبنان فعلاً في وضعٍ إنتظاري للتطورات المرتقبة، وليس معزولاً عن تلك التطورات على رغم دور الحزب المتمادي والمتدخِّل في أزمات المنطقة.
فالحرص على الاستقرار اللبناني لا يعني غضّ النظر عن دور «حزب الله» الذي تتمّ مواجهتُه بعقوبات تتوالى على دفعات، وبالتالي فإنّ الحلّ الأمثل يكمن في المزاوجة بين الحفاظ على التهدئة التي يحتاجها الحزب أساساً لجملة اعتبارات تبدأ من ترييح بيئته ولا تنتهي من خشيته على جرّه إلى مواجهات لا يريدها، وبين توجيه رسالة مزدوجة إلى الحزب من جهة والقوى السياسية من جهة أخرى فحواها أنّ الوضع في لبنان لا يمكن أن يستمرّ على هذا النحو والمنوال، وأنّ المساكنة مع «حزب الله» أصبحت غير مرغوبة دولياً.
وفي السياق ذاته هناك مَن يعتبر أنّ عدم التأليف يضع لبنان على سكة الأزمات المطلوب حلّها، ويفقد «حزب الله» ورقة من أوراقه المهمة التي يسعى من خلالها لتوجيه رسالة الى الخارج مفادها أنّ التعاون بينه وبين القوى السياسية هو على أفضل ما يرام، وأنّ دورَه مساهم أساسي في الاستقرار، وبالتالي لا مشكلة في لبنان.
وفي موازاة وجهة النظر هذه، هناك وجهة أخرى تستند إلى معلومات ومعطيات غربية وعربية ويمكن اختصارها بالآتي:
ـ أولاً، لا عقدة خارجية في تأليف الحكومة، وكل كلام عن شروط و»فيتوات» لا يمتّ إلى الواقع والحقيقة بصلة.
ـ ثانياً، الرؤية الخارجية للبنان لم تتبدّل لجهة ضرورة الحفاظ على التهدئة والاستقرار والإنتظام المؤسساتي.
ـ ثالثاً، عدم تأليف الحكومة يشكّل خطورةً على الاستقرار حيث يشرِّع الوضع اللبناني على المجهول، ويفاقم الخلافات السياسية، ويسرِّع في الانهيار المالي والاقتصادي.
ـ رابعاً، وجود حكومة في لبنان يجعل المبادرة السياسية في يد مجلس الوزراء الذي يمكن تحميلُه مسؤولية أيّ تجاوز يقدم عليه «حزب الله»، فيما أنّ خلاف ذلك يتحوّل الوضع أكثرَ تفلّتاً وغيرَ قابل للضبط.
ـ خامساً، التجربة الحكومية الأخيرة، والممتدة تحديداً من عودة الحريري عن استقالته إلى اليوم، تُعتبر فترة نموذجية لجهة الالتزام الصارم بسياسة «النأي بالنفس»، ما يعني ضرورة الحفاظ عليها وتطويرها.
ـ سادساً، الأولويّة الدولية ما زالت تحييد لبنان عن النزاع المستعر في المنطقة، ولا نيّة إطلاقاً لإقحام لبنان في هذا النزاع ولا توتير أوضاعه، وذلك على قاعدة «هم بالناقص»، وتلافياً لخربطة الهندسة التي يُعمَل عليها في سوريا.
ـ سابعاً، هناك ارتياحٌ الى المشهد السياسي غير المسبوق في لبنان منذ العام 2005، حيث لا أكثرية لأيّ طرف، والتوازن سيّد الموقف، والانتظام المؤسساتي تحوّل قاعدة، والتفاعل بين القوى السياسية، حتى المختلفة بعضها مع بعض، يتفاعل إيجاباً، وبالتالي لا مصلحة إطلاقاً في «خربطة» هذا الواقع.
ـ ثامناً، أولويّة المجتمع الدولي في المرحلة المقبلة خماسية: مساعدة لبنان اقتصادياً في ظلّ وجود خشية جدّية على استقراره النقدي؛ مساعدة لبنان عسكرياً نحو مزيد من تعزيز قدرات الجيش اللبناني، الدفع جدّياً نحو إقرار استراتيجية دفاعية على مرحلتين:
في المرحلة الأولى يُصار فيها إلى وضع قرار استخدام سلاح «حزب الله» في يد الحكومة اللبنانية التي يُشكّل الحزبُ جزءاً منها، والمرحلة الثانية المتصلة بتسليم سلاحه تبقى مفتوحة ربطاً بالتسوية الدولية مع طهران، ترسيم الحدود اللبنانية - الإسرائيلية البرّية والبحرية والانسحاب من مزارع شبعا بغية فكّ الاشتباك وإحياء الهدنة تمهيداً للاستثمار في النفط، لأن لا نفط بلا سلام أو هدنة، تشجيع «حزب الله» على مزيد من الانخراط في الدولة، وكلامه عن مكافحة الفساد وضعه مجدداً تحت المراقبة الدولية للتثبّت من صدق نيّاته وتوجّهاته، خصوصاً أنّ المجتمع الدولي يشجّع على توجّهٍ من هذا النوع عموماً، فضلاً عن أنه خصوصاً يُعتبر أنه يؤدّي إلى مزيد من انخراط الحزب في بنية الدولة واستطراداً لبننته.
فلكلّ ما تقدّم من أسباب لا عقدة خارجية في التأليف، بل إنّ الرئيس المكلف يحظى بالغطاء الدولي والعربي لتأليف حكومته على قاعدة احترام ما أفرزته الانتخاباتُ من نتائج، واحترام التوازن الوطني والسيادي، وكل ما يُحكى عن عقدة خارجية غير موجود، بل حتى الكلام عن تأخُّر التأليف ليس في محلّه، حيث ما زال الرئيسُ المكلّف ضمن فترة السماح الطبيعية والمعهودة، وتكفي العودةُ إلى بعض الأمثلة من الحكومات المتعاقبة في السنوات الأخيرة لتبيان أنّ الكلام عن تأخير في غير محلّه، وذلك من حكومة الحريري الأولى عام 2009 التي استغرق تأليفُها أكثر من أربعة أشهر، إلى حكومته الثانية، أي الحالية، التي استغرق تأليفُها أقلّ من شهرين، وما بينهما الحكومة التي سبقتها، أي حكومة الرئيس تمام سلام نحو عشرة أشهر، وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثانية ما بين الأربعة والخمسة أشهر.
وما تقدّم لا يعني أنّ من الضروري أن يأخذ كل تأليف الوقت المشار إليه، حيث يمكن الانطلاق من قاعدة أنّ ما يمكن حلُّه اليوم لا حاجة لترحيله إلى الغد، ولكنّ هناك بعض المسائل التي لا تُنتزع سوى عن طريق عضّ الأصابع وشدّ الحبال واللعب على عامل الوقت وتُشكّل جزءاً لا يتجزّأ من العملية التفاوضية، إنما ما يمكن قوله إنّ الحكومة العتيدة بفعل عوامل عدة قد تكسر الرقمَ القياسي في تأليف الحكومات لجهة السرعة في تأليفها.